قبل عقود كانت "الهيدورة" التي تستخلص من جلود الأضاحي و تستعمل في الجلوس قطعة تزيّن بلاطات المساكن القديمة في الجزائر، وتدرج ضمن ديكورات البيوت والجدران، وكذلك "الشكوة" التي تستخدم لمخض اللبن، و"القربة" التي تحفظ الماء بارداً. وكل هذه الأدوات وأخرى كثيرة ذات منشأ واحد، لكنها غابت بالكامل عن بيوت الجزائر في السنوات الأخيرة، لأن الأسر لم تعد تحتاجها بحكم تغيّر ظروف العيش.
في السابق، لم تكن العائلات الجزائرية تفرّط في جلود الأضاحي، وتحوّلها بعد مرور أسبوع أو أكثر من العيد إلى "هيدورة"، وهي زربية صغيرة تستخدم للجلوس غالباً، أو "قربة" لتبريد الماء أو حفظ اللبن والزبدة، أو استخدامات أخرى، ثم غابت هذه الأدوات عن البيوت في شكل لافت خلال العقود الأخيرة.
طالما شكلت "الهيدورة" القطعة الأهم في ديكورات البيوت الجزائرية التي ما زالت تحتفظ بخصوصياتها، لكن التمدّن وهجرة السكان من الأرياف والقرى حتما تراجع هذه العادات في شكل كبير خلال السنوات الأخيرة، حتى إن جلود الأضاحي باتت تشكّل عبئاً ثقيلاً على ربّات البيوت وعمّال النظافة معاً.
وكانت الموضة التي تربعت على عرش أثاث المنازل القديمة خلال عقود ما قبل الاستقلال وبعده، استغلال جلود الأضاحي بعد نحرها ووضع الملح في كل جوانبها كي لا تتعفن، وذلك لمدة تتراوح بين ثلاثة وسبعة أيام قبل أن تصبح جاهزة لاستغلالها، ما يسمح ببدء تحويلها إلى "هيدورة" على مراحل. وبعد رشها بالملح لأيام قد يصل عددها إلى عشرين تُنقع في الماء وتُغسل بالصابون وتُفرك جيداً لإزالة الشحم العالق في الجلد، وتنظيف الصوف بالماء والملح مرتين، ثم توضع تحت أشعة الشمس كي تنشف. وبعد ذلك يُعاد تمشيط الصوف للتخلص من كل الشوائب العالقة، وتترك القطعة في الهواء كي تتعرّض للشمس التي تزيل الميكروبات والروائح الكريهة.
"القربة"
وحالياً تعرفت العائلات إلى وسائل الرفاهية، لكن بعضها ما زال يحافظ على تقاليد ما بعد عيد الأضحى، وتستغل جلود الأضاحي في صنع ما يسمى بـ"القربة" يدوياً. وبعد معالجة الجلد بالملح جيداً تركّز النساء على الحفاظ على شعر الجلد باستعمال كمية كبيرة من القطران لمنع تعفنه، وتصنع منه إناءً جلدياً يستعمل لتبريد الماء. وتستعمل عائلات في جنوب الجزائر غالباً "القربة" لتبريد الماء، رغم التطور التكنولوجي وتوفر وسائل تبريد الماء في عز الصيف. وتقول عائشة زيتوني من منطقة المعاضيد بولاية المسيلة جنوبي العاصمة الجزائرية لـ"العربي الجديد": "ظلت القربة لعقود قطعة مهمة من أدوات المنزل في مناطق الجنوب، باعتبارها وسيلة للحفاظ على ماء بارد في عز ارتفاع درجات الحرارة، لأن الجلد يبقي درجات برودة الماء، علماً أنه يُضاف إلى الماء القليل من مادة القطران".
"الشكوة" و"المزود" و"البندير"
وإضافة إلى "القربة" صنعت العائلات الجزائرية أداة "الشكوة" من جلود الأضاحي، والتي يستعملها كثيرون في مخض الحليب وتحضير اللبن والزبدة. وهي تصنع أيضاً عبر وضع الجلد في ملح الحجر الخالي من مادة اليود الذي يمنع الروائح الكريهة للجلد، وذلك لمدة تتجاوز 15 يوماً، ثم يُزال الصوف عن الجلد ويُعالج باستخدام قشور الصنوبر كي يصبح متيناً من الجهتين، وبعدها يُخاط الجلد في شكل مثلث، ويجرى مسكه بقطعة خشبية وخيوط متينة تسمح بربطه في عمود كي تستطيع المرأة خلط الحليب وخضّه ليصبح لبناً، وتستخرج الزبدة منه. ولاحقاً يُخزّن جزء من هذه الزبدة في إناء آخر مصنوع من جلد الأضاحي يسمى "عكة" كي تصبح الزبدة عبارة عن دهن أو سمن يستعمل في تحضير العديد من الأطباق التقليدية والأكلات الشعبية.
وفي بعض مناطق الجزائر كانت تستخدم جلود الأضاحي لتخزين عجينة التمر التي تسمى "الغرس" ويمكن الحفاظ عليها سنوات. وبعد تجهيزه وجعله طرياً يعبأ الجلد بكمية كبيرة من "الغرس" التي تستعمل في تجهيز أطعمة شعبية عدة، خصوصاً في المناسبات والأعياد.
وبعيداً عن الاستعمال المنزلي يُخصص جلد الأضاحي لصنع آلات موسيقية، مثل "المزود" و"البندير"، التي ترافق العائلات في الاحتفالات بالمواسم الشعبية وحفلات الأعراس.
في السابق... رغبة وشغف
ويعتبر الأستاذ في جامعة البليدة كريم سحنون، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "الموروث الثقافي المرتبط بعيد الأضحى مهدد بالاندثار والزوال، رغم تنظيم تظاهرات شعبية وفنية لمحاولة إحيائه، وتشجيع هيئات رسمية على إعادة بعثه ضمن حرف يدوية مختلفة تمهيداً لتحويلها إلى مصدر اقتصادي.
وبخلاف اليوم، حظيت هذه الوسائل أو الأدوات والتقليدية باهتمام كبير. ويقول سحنون إن "عملية تنظيف الجلود واستغلالها بطريقة مثالية من خلال أعمال يدوية كانت عبارة عن رغبة وشغف كبير، خصوصاً بالنسبة إلى الجدات والأمهات اللواتي يحولنها إلى قطع مهمة يتباهين بها في أثاث البيت، وتشكل إنجازاً كبيراً بالنسبة إليهن".
وترى ناشطات أن اختفاء هذه العادات واندثار استغلال جلد الأضحية يعود إلى الوقت الذي تستغرقه مراحل التنظيف والتجهيز. وتقول سمية عوف لـ"العربي الجديد": "الجهد المبذول في عملية تجفيف وغسل جلود الأضاحي كبير جداً، في حين تتوافر في المحلات وسائل جاهزة تستعملها ربات البيوت. أيضاً لا يمكن تجاهل واقع أن التغيّرات التي عرفها المجتمع الجزائري دفعت كثيرين إلى التخلي عن هذه العادات والأدوات".
وتقول عضو جمعية "ناس الخير" في منطقة سيدي مروان (شرق) وهيبة بوحبل لـ"العربي الجديد": "من الضروري العودة إلى الحرف التقليدية التي تخلق وظائف كثيرة، وتدر على ممارسي صناعاتها الكثير من المال. ورغم أنها انحسرت في أسواق الصناعة والتجارة أيضاً، يجب أن تغسل جلود الأضاحي وتستعمل في نسج الزرابي والأفرشة، وغيرها من الأدوات، فاسترجاعها وتثمينها في صناعة الجلود والحرف التقليدية سيشجع مهناً تقليدية عدة اندثرت، ويساعد النساء اللواتي يمكثن في البيوت لاستغلال هذه الجلود في تنفيذ صناعات تقليدية مختلفة".