في وحدة صحية بقرية في وسط الكونغو، التي تفصلها عن العالم ممرات مائية وغابات متشابكة، تقبض أنجيليكا ليفافو (ستة أعوام) بيدها الصغيرة على ملابسها وتبكي بينما تتعامل ممرضات يرتدين الملابس الواقية مع واحدة من مئات البثور التي أصابت جلدها الرقيق الحساس.
يجلس عمها ليسونجي ليفافو (12 عاما) على طرف سريرها، محاولا إبعاد وجهه عن ضوء الشمس الذي يتسلل من باب الغرفة ويزعج عينيه المنتفختين الباكيتين.
ويعاني الطفلان من جدري القرود، وهو مرض ظهر لأول مرة في الكونغو منذ 50 عاما، لكن إصاباته زادت في غرب ووسط أفريقيا منذ عام 2019. ولم يحظ المرض باهتمام كبير قبل أن ينتشر على مستوى العالم هذا العام، مسجلاً 77 ألف إصابة.
وأظهرت إحصاءات هيئات الصحة العالمية أن الإصابات في أفريقيا خلال موجة التفشي الحالية أقل كثيرا من العدد في أوروبا والولايات المتحدة، اللتين التهمتا اللقاحات محدودة الأعداد هذا العام عندما وصل المرض إليهما.
وتظهر تقارير لـ"رويترز" أن تفشي المرض وعدد الوفيات في الكونغو يمكن أن يكون أكبر بكثير مما هو مسجل في الإحصاءات الرسمية، وهو ما يعود إلى حد كبير لمحدودية فحوص الكشف عن الإصابات في المناطق الريفية غير المجهزة وعدم توفر الأدوية الفعالة.
ظهر جدري القرود لأول مرة في الكونغو منذ 50 عاما، وسجل هذا العام على مستوى العالم 77 ألف إصابة
وخلال رحلة استمرت ستة أيام إلى منطقة تشوبو النائية هذا الشهر، رصد مراسلو "رويترز" نحو 20 مصابا بجدرى القرود، بينهم اثنان توفيا، لم يتم تسجيلهم بين الإصابات سوى بعد زيارة الصحافيين. ولم يكن أي منهم، بما في ذلك أنجيليكا وليسونجي، قد حصل على لقاحات أو أدوية مضادة للفيروس.
وقال أكثر من عشرة من العاملين في قطاع الصحة إن النقص في منشآت الفحص وسوء خطوط النقل يجعل تعقب الفيروس شبه مستحيل.
وردا على سؤال حول الضعف المتعلق بحصر أعداد الإصابات، أقرت المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها بأن بياناتها لم تغط نطاق تفشي المرض بالكامل.
توافر الإمكانيات في الغرب يحسن فرص النجاة
وفي دول الغرب، توفي نحو عشرة فقط بسبب جدري القرود هذا العام، وفقا لبيانات المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. وتمكنت أوروبا والولايات المتحدة من تطعيم المجتمعات المعرضة للخطر.
وقال الخبراء إن الحالات المشتبه بها تخضع للفحوص بشكل روتيني ويتم عزلها وعلاجها مبكرا، مما يحسن معدلات النجاة من الموت. واستقرت أعداد الإصابات في أوروبا والولايات المتحدة قبل أن تبدأ في التراجع.
لكن في البلدان الأفريقية الفقيرة حيث لا يستطيع الكثير من الناس الوصول بسرعة إلى المرافق الصحية، أو يفتقرون إلى الدراية بالمخاطر، تم تسجيل أكثر من 130 وفاة، جميعها تقريبا في الكونغو، بحسب المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها.
وأمام عدم إتاحة لقاحات ضد جدري القرود في أفريقيا، ليس أمام أنجيليكا وليسونجي سوى أن يأخذ المرض مجراه. ومواجهة عدد لا يحصى من الاحتمالات، منها الشفاء أو العمى، أو الموت كما حدث لأحد أفراد عائلتهما في أغسطس/آب.
وقال ليتومبي ليفافو، والد ليسونجي، في الوحدة الصحية في يالوليا، وهي قرية من الأكواخ الطينية المتناثرة تبعد 1200 كيلومتر عن العاصمة كينشاسا "الطفلان مصابان بمرض يسبب لهما معاناة شديدة"، مضيفا "نطالب الحكومة بتوفير الأدوية لنا نحن الفلاحين الفقراء، واللقاحات لمحاربة هذا المرض".
أفريقيا في آخر قائمة انتظار اللقاحات
نددت منظمة الصحة العالمية، العام الماضي، بما وصفته بأنه "فشل أخلاقي" في مواجهة وباء كوفيد-19، عندما وجدت الدول الأفريقية نفسها في آخر قائمة انتظار اللقاحات والاختبارات والعلاج.
وقال عاملون في قطاع الصحة لـ"رويترز" إنه مع ذلك تتكرر هذه الإخفاقات بعد عام واحد مع جدري القرود. وقال الخبراء إن هذا يهدد بتفشي المرض في المستقبل في أفريقيا والعالم.
ومع التهام الطلب المفاجئ من دول الغرب للقاحات المتاحة، تباطأت البلدان الفقيرة مثل الكونغو، التي ظهر فيها المرض منذ فترة طويلة بما يكفي لاعتباره وباء، في طلب الإمدادات من منظمة الصحة العالمية والشركاء.
وقال وزير الصحة في الكونغو، جان جاك مبونجاني، لـ"رويترز"، إن الدولة تجري محادثات مع منظمة الصحة العالمية لشراء لقاحات لكن لم يتم تقديم طلب رسمي. وقال متحدث باسم تحالف اللقاحات "جافي"، إنه لم يتلق طلبات من الدول الأفريقية التي يتفشى فيها الفيروس.
وأفادت متحدثة باسم منظمة الصحة العالمية إنه في غياب اللقاحات، ينبغي على الدول التركيز بدلا من ذلك على المراقبة وتعقب المخالطين.
وقال رئيس الجمعية النيجيرية المستقلة للأمراض المعدية، البروفيسور ديمي أوجوينا، "التاريخ يعيد نفسه". وكرر القول إن احتواء الأمراض في أفريقيا لا يحصل على التمويل اللازم قبل أن يصل الخطر إلى الدول الأكثر ثراء، مضيفا" لقد حدث ذلك مع فيروس نقص المناعة البشرية، وحدث مع فيروس إيبولا وكورونا، ويحدث مرة أخرى مع جدري القردة".
وقال هو وخبراء آخرون إنه نظرا لعدم توفر الموارد الكافية، فإن حجم التفشي الحقيقي للفيروس غير معروف، موضحا" في أفريقيا نعمل معصوبي العينين.. يجري التقليل من أهمية المشكلة بشكل فادح".
وتنتقل عدوى جدري القرود من خلال الملامسة المباشرة للجروح الجلدية. وبالنسبة لمعظم المصابين، يتم التعافي في غضون أسابيع. ويواجه الأطفال صغار السن ومن يعانون من ضعف المناعة المضاعفات الخطيرة بشكل خاص.
وتقول المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض إن عدد الحالات في الكونغو زاد عن 4000 إصابة ما بين مشتبه بها ومؤكدة علاوة على 154 وفاة هذا العام بسبب جدري القرود، وهو ما يستند جزئيا إلى بيانات المراكز الأفريقية لمكافحة الأمراض. ويقل العدد كثيرا مقارنة بتسجيل 27 ألف حالة في الولايات المتحدة و7000 في إسبانيا. وتشمل الدول الأفريقية التي تفشى فيها المرض غانا، التي سجلت نحو 600 إصابة مشتبه بها ومؤكدة، ونيجيريا حيث تم تسجيل قرابة ألفي حالة.
تأمل الدول الأفريقية في أن يؤدي قرار منظمة الصحة العالمية في يوليو/ تموز بإعلان جدري القرود حالة طوارئ صحة عامة تحظى باهتمام دولي إلى تعبئة الموارد.
وقال أمبروز تاليسونا، مدير فريق منظمة الصحة العالمية لمكافحة جدري القرود في القارة، إن المنظمة أرسلت نحو 40 ألف اختبار إلى أفريقيا، من بينها 1500 إلى الكونغو.
وبدأ المعهد الوطني لأبحاث الطب الحيوي في الكونغو هذا الشهر تجربة سريرية لعقار "تيكوفيريمات" المضاد للفيروسات على مرضى جدري القرود.
وقال وزير الصحة، مبونجاني، إنه على الرغم من عدم توفر لقاحات للاستهلاك العام، إلا أن هناك تجارب على لقاح إيمفانكس من إنتاج شركة بافاريان نورديك على العاملين في قطاع الصحة في الكونغو.
ضعف الخدمات وقلة الموارد
تعيش أنجيليكا وعمها ليسونجي، في يالوليا حيث لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال مسارات الدراجات النارية التي تشبه الأنفاق عبر الغابة الكثيفة، أو عن طريق الزوارق المنحوتة من جذوع الأشجار. وانقطع طريق قديم يربطها بقرى مجاورة منذ سنوات عندما انهارت سلسلة من الجسور الخشبية.
وفي أغسطس/ آب، أُصيب شقيق ليسونجي الأكبر بطفح جلدي وصعوبة في التنفس. واعتقدت الأسرة أنه مرض الجدري. وعندما ساءت حالته، حاول طبيب إسعافه بحقنة وريدية. وتوفي قبل إكمال الحقنة.
وفي حالة حزن شديد، عانق ليسونجي جثمان شقيقه المصاب. وبعد أسبوعين، في أوائل سبتمبر أيلول، أصيب هو الآخر بالطفح الجلدي وتورمت عيناه. ثم أصيبت أنجيليكا.
وأخذ والد ليسونجي الطفلين إلى يالوليا حيث تم تشخيص حالتهما بجدري القرود بناء على الأعراض. وباع متعلقات ليشتري دواء لتقليل الحمى.
وتشعر الممرضات اللائي يعتنين بهما بالقلق بسبب نقص العلاجات، إذ قالت الممرضة مارسيل أوسيكاسومبا "إذا كان هناك لقاح، يجب أن يكون من نصيبنا. إذا كان هناك علاج، فيجب أن يكون من نصيبنا". ولم يتم تسجيل أي من الحالات لدى السلطات حتى زارت "رويترز" يالوليا مع مسؤول صحي محلي يدعى ثيوبيست مالوكو. ولم يذهب إلى القرية إلا بناء على اقتراح "رويترز".
ونظرا لعدم وجود نتائج بناء على اختبار، يتم تسجيل الحالات على أنها مشتبه بها.
صرخة استغاثة من تشوبو
تمتلئ تشوبو، مترامية الأطراف، بالأشجار الكثيفة، ويحدها نهر الكونغو وروافده المتعرجة العديدة. وتتمثل مهمة مالوكو في تتبع الحالات على مساحة تبلغ خمسة آلاف كيلومتر مربع. لكنه لا يستطيع تحمل تكلفة البنزين وليس هناك وسائل نقل.
وعندما أخذت الممرضات عينات من القروح على ساق أنجيليكا ووضعتها في صندوق تبريد من البوليسترين مربوط على الجزء الخلفي من دراجة نارية، انتاب الشك مالوكو.
وقال إنه لتجنب التلف، يجب أن تبقى العينات باردة وتصل إلى المختبر في غضون 48 ساعة، لكن هذا لا يحدث في كثير من الأحيان. ويقع أقرب مختبر في كينشاسا ويستغرق الأمر أسابيع أو حتى شهورا لظهور النتائج، مضيفا "نحن نعاني. هذه حقا صرخة تنبيه منا. نحن نرفع أصواتنا. ربما نجد من يصغي إلينا".
(رويترز)