انتشل عناصر الدفاع المدني 150 شهيداً كانوا تحت الأنقاض في قطاع غزة، يوم الثلاثاء، وذلك في إطار محاولاتهم اليومية في كافة محافظات قطاع غزة الخمس، لإخراج الجثث من تحت الأنقاض ومعرفة مصير المفقودين المسجلين لديهم ولدى وزارتي الصحة والداخلية بغزة. وحاول عدد من الغزيين العودة إلى منازلهم المهدمة مع بدء دخول الهدنة، وقد أخرج البعض الجثث بأيديهم وانتظروا طواقم الدفاع المدني لمساعدتهم. هؤلاء انتظروا أياماً طويلة في ظل عدم قدرة عناصر الدفاع المدني على انتشال الجثث، بعدما فصل الاحتلال الإسرائيلي شمال القطاع عن جنوبه، ما جعل التواصل صعباً.
بقيت العديد من الجثث تحت الأنقاض، ومات البعض بسبب طول الانتظار. بعض العائلات كتبت على الجدران المتبقية أسماء شهداء من عائلاتها بقوا تحت الأنقاض بانتظار وصول طواقم الدفاع المدني، بعدما عجزت عن انتشالهم. ويعمل الدفاع المدني ضمن قائمة معدة خلال الهدنة لإزالة الركام وانتشال الجثث من تحت الأنقاض.
واستغل جهاز الدفاع المدني أيام الهدنة لمواصلة عمله في المنطقة المحاصرة في مدينة غزة وشمال القطاع، وسط تنسيق متواصل مع الصليب الأحمر الدولي لعدم استهداف طواقمه. لكن على الرغم من كل محاولاته للإسراع في إخراج الجثث قبل 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، أعلن أنه لن يتمكن من إخراج المفقودين الذين تم الإبلاغ عنهم. وكان قد وصل عددهم قبل الهدنة الأولى حتى صباح الجمعة 24 نوفمبر إلى حوالي 7 آلاف مفقود سجلت أسماؤهم، بينهم أكثر من 4700 طفل وامرأة. واستطاعت طواقم الدفاع المدني إخراج المئات منهم فقط خلال 6 أيام من الهدنة، كما يوضح الناطق باسم جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة محمود بصل. وعلى الرغم من تكثيف عملهم، إلا أنهم لن يستطيعوا الوصول إلى جميع الجثث في ظل الظروف الحالية. يقول بصل لـ "العربي الجديد": "المشاهد التي رأيناها والدمار الكبير يستدعي من العالم التدخل وإغاثة جهاز الدفاع المدني من خلال تقديم المعدات اللازمة لانتشال ما يمكن انتشاله من أجل تسوية الشوارع الموجودة. لا يوجد أي حفارة في مدينة غزة، وحفارة واحدة في شمال القطاع. وإن لم يتم تزويدنا بالمعدات، يمكن مرور أكثر من عام ونحن نستخراج الشهداء من تحت الأنقاض". يضيف: "الحفارات والجرافات هي من أهم المعدات اللازمة لعملية انتشال الجثث. هناك ضرر بيئي خطير. تحللت عشرات الجثث، والديدان تخرج من بعضها. هذا سبب صدمة كبيرة لنا وللناس. بعض الناس كانوا يساعدون طواقم الدفاع المدني، وكانت الأجهزة تستدل على وجود جثث كلما شمت رائحة كريهة".
ويشدد بصل على الحاجة إلى طواقم جديدة ومتطوعين إلى جانب المعدات، بهدف الوصول إلى الجثث وإزالة الركام. وسببت إصابة المئات من طواقم الدفاع المدني أزمة إضافية، بالإضافة إلى استشهاد 26 عنصر. وتنتظر فرق الدفاع المدني انتهاء العدوان من أجل فتح الباب أمام المتطوعين من أجل المضي قدماً بعملياتها. ويحذّر بصل من مشكلة الأضرار البيئية الناتجة من بقاء الجثث تحت الأنقاض من دون القدرة على دفنها، ويضيف أنهم تواصلوا مع منظمة الصحة العالمية للعمل على إيجاد حل سريع. فتعفن الجثث وتحللها سيؤدي إلى انتشار الأمراض.
روائح كريهة
خلال البحث بين الأنقاض، كانت الروائح الكريهة تسبب الدوار للناس وأجهزة الدفاع المدني. لكنها في الوقت نفسه، تدلهم على وجود جثث، كما يقول محمد جمال، وهو أحد طواقم الدفاع المدني العاملين في مدينة غزة. أصيب بدوار أكثر من مرة، وخصوصاً خلال يومي الهدنة الأولين. لكنه واصل عمله بكل صعوبة في ما بعد، لافتاً إلى أنه أصيب هو وزملاؤه بالصدمة لروعة المشاهد.
وكان العاملون يستدلون على وجود جثث لدى رؤيتهم أعضاء بشرية، فيقتربون منها في محاولة للعثور على الجثث. وكانوا يتناوبون على تدمير الأسقف التي غطت الجثث، من خلال مطرقات كبيرة. وكانوا يحاولون فتح ثقب كبير للدخول والخروج منه وإخراج الجثث. يقول جمال لـ "العربي الجديد": "رؤية الجثث سببت لنا صدمات كبيرة. لا يمكنني نسيان المشاهد التي رأيتها في حياتي. بعض طواقمنا اتجهت إلى مناطق يعرفونها وأخرجوا جثثًا لناس يعرفونها وصدموا. الكثيرون منا أصيبوا وفقدنا زملاء شهداء. في كثير من الأحيان، نضع قلوبنا ومشاعرنا بعيداً لنتمكن من الاستمرار في العمل".
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة ارتفاع حصيلة شهداء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى أكثر من 15 ألفا، بعد انتشال العشرات من الجثث من تحت الأنقاض والطرقات.
وقال المكتب، في بيان، إن من بين الشهداء أكثر من 6150 طفلا، وأكثر من 4 آلاف امرأة، وأكد انتشال عشرات الشهداء ممن كانوا تحت الأنقاض أو من جُمعت جثامينهم من الشوارع أو استشهدوا متأثرين بجروحهم خلال العدوان الذي بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأحصى المكتب نحو 7 آلاف مفقود حتى الآن، يرجح أن معظمهم تحت الأنقاض، وأوضح أن مصير هؤلاء لا يزال مجهولا، وبينهم أكثر من 4700 طفل وامرأة. وذكر المكتب أن من بين الشهداء 207 من الأطباء والممرضين والمسعفين، إضافة إلى 26 من طواقم الدفاع المدني، و70 صحافياً. وأشار إلى أن عدد الإصابات ارتفع إلى ما يزيد على 36 ألفا، أكثر من 75 في المائة منهم من الأطفال والنساء.
مقابر جماعية
صباح الاثنين الماضي، تلقت إيمان شحيبر (40 عاماً) أنباء عن استشهاد أربعة من أشقائها في مجزرة لعائلة شحيبر راح ضحيتها نحو 200 شخص كانوا داخل مبنى العائلة الكبير. بعض هؤلاء هم أقارب العائلة من الدرجة الثانية. وكانت إيمان قد نزحت إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة منذ 18 يوماً، وتنتظر الهدنة لمعرفة مصير عائلتها.
توضح أن عدد من تم التعرف إليهم حتى اللحظة بعد المجزرة التي شهدها حي الصبرة (شرق مدينة غزة) مسقط رأس عائلتها هو 36 فقط، علماً أن هناك أكثر من 150 لا يزالون تحت الأنقاض، بالإضافة إلى عدد آخر من المفقودين حتى اللحظة في منطقة تتواجد فيها منازل عائلتها بشكلٍ متلاصق في الحي. استطاعت التواصل مع شقيقها الأصغر الذي نجا من المجزرة، وتم إسعافه من أحد المنازل المتبقية في المنطقة القريبة لعدم تمكن سيارات الإسعاف وطواقم الدفاع المدني من الوصول إلى المنطقة إلا عند الإعلان عن الهدنة الإنسانية.
تقول شحيبر: "شقيقي لم يتعرف إلى الكثير من أفراد العائلة، باستثناء أشقائي الشهداء من خلال ملابسهم أو بعض ما يرتدونه والقليل من ملامحهم. أخبرني أن الكثير من جثث العائلة تحلّلت. ولم ير عدداً من النساء اللواتي كن موجودات معاً قبل الاستشهاد لتحديد هوياتهن. لكنني عرفت مصيرهن في النهاية".
من جهته، تلقى صفوت الشيخ (50 عاماً) أنباء عن استشهاد شقيقه وأطفاله وزوجته في حي تل الهوا، بعدما انقطع الاتصال عنهم منذ 23 يوماً كما يذكر. وصباح الثلاثاء، علم بالعثور على جثثهم وجثث أصدقائه الذين احتموا في منزل شقيقه في المنطقة، وكان ينتظر النزوح والخروج آمناً إلى جنوب القطاع.
وعلى الرغم من محاولة الشيخ التواصل مع الصليب الأحمر حينها، إلا أن عناصره لم يكونوا قادرين على التواصل مع ذويه وأخبروه أن أحداً لا يستجيب، وقد عاد للتواصل مع شقيقه لكن الاتصال انقطع مجدداً وفقد الأمل وتوقع استشهاده. ولا يعلم من بقي حياً من أفراد العائلة. يوضح أن شقيقه كان قد شيع بعضاً من أفراد العائلة الذين استشهدوا بعد أسبوع من العدوان الإسرائيلي، واليوم أصبح شهيداً مع عائلته.
يقول الشيخ لـ "العربي الجديد": "من يجد قبراً اليوم أو لديه ضريح خاص به لهو محظوظ. غالباً سيدفن شقيقي وعائلته وأصدقائي في مقبرة جماعية، الأمر الذي يحزنني كثيراً. حتى لو أردت زيارتهم في القبر الجماعي، سأتذكر كل ذكرياتهم معاً وأتألم أكثر. هذا العدوان لم يقتلنا فقط، بل قتل مستقبلنا وذكرياتنا في كل مكان ومحى الكثير من ذكريات الأشقاء والأصدقاء وحتى الأطفال".