أثارَ استخدام الصين الثلوج الاصطناعية الكثير من الجدال حول التأثيرات البيئية، وتساؤلات حول مدى إمكانية أن تتجه الدول التي تعاني من انخفاض في معدل تساقط الثلوج والأمطار إلى هذه التقنية في المستقبل. صحيح أنّ مشهد الثلوج في الملاعب الأولمبية شمال غربي بكين قد يكون جميلاً لدرجة أنّ العديد من الزوار لم يميزوا نوعية الثلج، كما نقلت تقارير صحافية، لكنّ الكلفة الناتجة عن هذه الخطوة قد تكون كبيرة، خصوصاً من الناحية البيئية.
وأجبر تغير المناخ والارتفاع في درجة حرارة الأرض الصين على اللجوء إلى اختيار الثلوج الاصطناعية لنشرها على الجبال الجافة، وقد يجبر غيرها من الدول على أن تحذو حذوها في المستقبل. وكشفت شبكة "سي أن أن" الإخبارية الأميركية، نقلاً عن دراسة علمية، أنّ واحدة فقط من أصل 21 مدينة عالمية استضافت الألعاب الأولمبية الشتوية خلال الخمسين عاماً الماضية، ستتمتع بمناخ مناسب للرياضات الشتوية بحلول نهاية القرن الحالي.
ما هي الكلفة؟
على مدى عقود، أثارت قلة تساقط الثلوج قلق منظمي دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، بسبب عدم وجود تقنيات لاستخدام الثلج الاصطناعي في ما مضى. وبحسب تقرير صادر عن مجلة "ذا إيكونوميست" البريطانية، فإنّ الألعاب الأولمبية الشتوية شكلت ضغطاً على العديد من الدول منذ منتصف القرن الماضي. عام 1960 على سبيل المثال، أجريت الألعاب الأولمبية في ولاية كاليفورنيا الأميركية، وتحديداً في وادي سكواو (Squaw Valley)، ولم يتساقط الثلج إلّا قبل يوم واحد من بدء الألعاب. وعام 1976، لم يكن الوضع في منحدرات إنسبروك في النمسا أفضل حالاً، ولم يسعف تساقط الثلوج منظمي الألعاب الأولمبية حينها. وعام 1980، نجحت ولاية نيويورك الأميركية في تدعيم منحدرات الثلج الطبيعي ببعض الرقائق والأملاح التي تساهم في تكثيف طبقات الثلج لإنجاح الألعاب الشتوية حينها، أي أنّها لجأت إلى الثلج الاصطناعي وإن بكميات قليلة. وتزداد المشكلة في ظل استمرار ارتفاع درجة حرارة الأرض.
كيف يتكون الثلج؟
يتكوّن الثلج من بخار الماء في الغلاف الجوي البارد ليتكثف ويسقط على الأرض. لكن في ظل الارتفاع في درجة حرارة الغلاف الجوي، تراجعت كمية تساقط الثلوج، ما يدفع بعض الدول، من بينها الصين، للجوء إلى الثلوج الاصطناعية. وبحسب "ذا إيكونوميست"، يمكن تصنيع الثلوج من خلال استخدام كميات كبيرة من المياه ووضعها تحت مضخات للبرودة تصل درجة حرارتها إلى ما دون 39 درجة مئوية حتى تتجمد المياه. تضاف إلى هذه التقنية العديد من المواد الكيميائية والأملاح حتى تتماسك حبيبات المياه. وتحتاج هذه العملية إلى كميات كبيرة من المياه والطاقة لتبريد الهواء.
وتكمن مشكلة هذه التقنيات في أنّها تستهلك كميات كبيرة من المياه والطاقة. وقد يتطلب صنع الثلوج للألعاب نحو 49 مليون غالون من المياه، وهي كمية من شأنها أن تملأ 74 حوض سباحة بالحجم الأولمبي. علاوة على ذلك، يتطلب الأمر 130 مولداً ثلجياً، و300 مدفعاً لصنع الثلج وإنشاء 1.2 مليون متر مكعب من رقاقات الثلج الزائفة.
مشكلة للرياضيين
صحيح أنّ هذه التقنية قد تكون ذات أهمية بالنسبة إلى منظمي الأحداث الرياضية ولسمعة الدول خصوصاً الصين، التي تعيش على وقع توترات مع الجانب الأميركي، وتسعى إلى سدّ أيّ ثغرة تطرأ في الألعاب الأولمبية، إلّا أنّ خبراء بيئيين يشيرون إلى أنّ الثلوج الاصطناعية قد تسبب مشكلة للرياضيين، على اعتبار أنّ المواد الكيميائية التي يتم رشها لتكوين الثلج الاصطناعي قد تجعله أكثر كثافة من الثلج الطبيعي، ويبلغ نحو 450 كيلوغراماً لكلّ متر مكعب مقارنة بما يصل إلى 250 كيلوغراماً للثلج الطبيعي. وفي النتيجة، يذوب ببطء أكثر ويوفر سطحاً أكثر صلابة وأكثر جليداً للانزلاق عليه، الأمر الذي يسبب مشاكل للرياضيين الذين لا تحتاج الرياضات التي يمارسونها إلى السرعة. في المقابل، ربما تكون مفيدة للرياضات السريعة.
من جهة أخرى، ربما تكون لاستخدام الجليد الاصطناعي مخاطر عدة على مستوى تنفس الرياضيين. ويقول المتزلج الفرنسي كليمنت باريزي، الفائز بالميدالية البرونزية في أولمبياد "بيونغتشانغ" 2018، لشبكة "سي أن أن"، إنّه على الرغم من أنّه ليس من غير المألوف التنافس على جليد من صنع الإنسان، لكنّه قد يصبح شديد البرودة، الأمر الذي يشكل تحديات إضافية قد تعيق قدرة اللاعبين على التحرك.
بدورها، تنتقد المتزلجة البريطانية على الجليد الحرّ لورا دونالدسون الثلج الاصطناعي، لأنّه قد يؤدي إلى حوادث مميتة. وتحدثت وكالة "أسوشييتد برس" عن إصابات ووفيات لعدد من اللاعبين الأولمبيين بسبب الثلج الاصطناعي. متزلج بريطاني حطم سياجاً خشبياً عند زاوية منحدر ثم ارتطم بعمود وكسر ساقه بسبب صعوبة التزلج في أحد النشاطات الرياضية التي استخدمت الثلج الإصطناعي، كما اصطدم لاعب أميركي برقعة جليدية في نشاط آخر، ما أدى إلى كسر إحدى الزلاجات وإصابة ساقه.
ويقول العديد من الرياضيين إنّ حوادث مثل هذه أصبحت أكثر شيوعاً لأنّ تغير المناخ يقلل من توفر الثلج الطبيعي، الأمر الذي يجبر المتسابقين على التنافس على حلبات مع النسخة التي صنعها الإنسان. وتصف لاعبة أولمبية إستونية تدعى جوانا تاليارم السباق على الجليد الاصطناعي بأنه الأكثر خطورة، لأنّه يجعل اللاعب ينزلق بسرعة كبيرة. وبحسب الخبراء، فإنّ الثلج الاصطناعي يحتوي على نسبة عالية من الرطوبة، الأمر الذي يجعله يتجمد بسرعة.
لماذا لجأت الصين إلى هذه التقنية؟
بحسب إذاعة أميركية متخصصة بأخبار الرياضة والبيئة، فإنّ غياب المتساقطات المائية والجفاف في المناطق التي تستضيف الألعاب الرياضية يعدان سببين رئيسيين لاستخدام الثلج الإصطناعي. على سبيل المثال، تستضيف إحدى مناطق غرب تشانغجياكو العديد من الألعاب الشتوية كالتزلج، لكنّ تلك المنطقة جافة جداً، وليست صالحة لممارسة التزلج من دون وجود طبقات سميكة من الثلج.
هذا الأمر دفع السلطات الصينية إلى تجربة الثلوج الاصطناعية كخيار أساسي، ووقعت السلطات على عقود مع شركات أجنبية وحتى صينية من أجل الحصول على الثلوج. ومن أبرز الشركات التي تعمل على تجهيز الملاعب الأولمبية بالثلوج شركة "تكنوألبين" التي تتخذ من إيطاليا مقراً لها. يقول مدير فرع الشركة في آسيا مايكل ماير لشبكة "سي أن أن"، إنّ خيار الصين باستخدام الثلوج الاصطناعية كان خياراً استراتيجياً، منعاً لفشل دورة الألعاب الشتوية.
مخاطر بيئية؟
أكثر ما يقلق الخبراء هي المخاطر البيئية الناتجة عن الثلوج الاصطناعية. والسؤال الأبرز هو: ماذا بعد انتهاء الألعاب الشتوية؟ كيف سيتم التخلص من كميات الثلج الاصطناعي، وكيف يمكن لبكين أن تتخلص منها بأقل كلفة بيئية؟ حتى الآن، لا إجابة واضحة بشأن كيفية تصرف السلطات الصينية مع الثلوج فور الانتهاء من الألعاب الأولمبية. لكن ما هو واضح أنّ التأثيرات على المناخ مكلفة، كما يقول أستاذ العلوم البيئية في جامعة "البلمند" في لبنان جورج متري لـ"العربي الجديد". ويوضح أنّه "لدراسة التأثيرات المناخية، علينا السؤال أولاً عن الطريقة التي يتم من خلالها إنتاج الثلج. ففي حال استخدمت الصين الطاقة النظيفة، فقد يكون لذلك تأثير إيجابي. أما في حال استخدمت المضخات الكهربائية أو تلك التي يتم تشغيلها من الوقود الأحفوري، فإن التكاليف البيئية قد تكون مرتفعة". ولا تتوقف حدود الأزمة هنا، بحسب متري، ويقول إنّ الأملاح والمواد الكيميائية التي تحقن في الثلوج ربما تكون لها تأثيرات ضارة على البيئة المحيطة، سواء تلك المتعلقة بالهواء أو التربة.
ويتوافق موقف الخبير البيئي متري مع ما ذهبت إليه العديد من الدراسات السابقة حول الثلوج الاصطناعية والتأثيرات المناخية. وبحسب دراسة نشرت في مركز ACS الأميركي (مركز متخصص بالعلوم الكيميائية)، فإنّ عملية حقن الثلج بالماء من أجل تصلبه ثم معالجته في ما بعد بالمواد الكيميائية للحفاظ على سلامته، قد تكون ذات مخاطر عديدة بعد ذوبانه. وبحسب الدراسة، فإنّ الثلج المزيف أو المصطنع يحتوي على أنواع مختلفة من البكتيريا، بالإضافة إلى المواد الكيميائية، الأمر الذي يعني أنّ ذوبان هذه المواد قد يؤثر على المياه الجوفية الطبيعية، إذ من المرجح أن تتسرب هذه المواد إلى المياه الجوفية.
وبحسب الدراسة، فإن إضافة منتج يسمى "سنوماكس" (Snomax) يحتوي على بروتينات من البكتيريا لتثبيت الثلج، قد يؤدي إلى حدوث مشاكل في التنفس بعد استنشاق هذا المنتج. وبحسب الدراسة، فإن الثلج الاصطناعي يميل الى الذوبان بشكل أبطأ بكثير من الثلج الطبيعي. ويمكن أن يؤدي هذا التأخير إلى خلق طبقات جليدية قد تضر بالتنوع البيئي من أشجار ونباتات، لأنّ الطبقات الجليدية تحتوي على مواد كيميائية.
وبحسب مجلة "ساينس دايركت" الأميركية، فإنّ الثلج الاصطناعي الذي ينشر على الأسطح والتربة قد يؤدي مستقبلاً إلى تغيير درجة حرارة التربة، ما يعني أن التربة تصبح أكثر برودة، وبالتالي قد لا تكون صالحة للزراعة. وبحسب تجارب مخبرية، فقد أثرت البكتيريا الخاصة بإنتاج الثلج على نمو بعض أنواع نباتات جبال الألب، وغيرت العديد من معالم الطبيعة. ووفق الدراسة المخبرية التي استنسخت بيئة مماثلة لجبال الألب مع النباتات الخاصة، تم رشها بالثلج الاصطناعي، تبين أنه لم يكن بالإمكان إعادة زراعة أي نبات.
كما وجد بحث نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن مسارات التزلج الاصطناعية يمكن أن تؤدي إلى تآكل التربة وتدهور الغطاء النباتي بغض النظر عن نوع الثلج الذي تستخدمه.
معضلة أكثر عمقاً
تُواجه الصين مشكلة أساسية تتعلق بندرة المياه المحلية. وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإن مشكلة المياه في الصين قد تكون السبب المباشر لإثارة قضيّة الثلوج الاصطناعية. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، أدى التطور السريع إلى استنزاف المياه الجوفية في بكين. وعام 2017، لم يكن لدى بكين من موارد المياه العذبة لكل مقيم سوى 36000 غالون، مثل دولة النيجر الواقعة في غرب أفريقيا. في تشانغجياكو، المدينة التي تقع على بعد 161 كيلومتراً شمال غربي العاصمة والتي ستستضيف بعض أحداث التزلج والتزحلق على الجليد، هناك نحو 83.000 غالون مياه لكل ساكن، وهي نسبة قليلة جداً، حتى أنّها أقل من المعيار الدولي الموصى به، وهو 260 ألف غالون من المياه لكلّ فرد، وإلّا تعتبر الدولة شحيحة بالمياه.
بالتالي، فإنّ ندرة المياه في الصين قد تدفع الخبراء إلى السؤال عن الوسائل والأساليب التي حصلت من خلالها الصين على الماء لصنع الثلوج. وبحسب موقع "فيرست بوست" الهندي، نقلاً عن أستاذة الجغرافيا بجامعة ستراسبورغ الفرنسية كارمن دي يونغ، فإن الصين ربما تكون قد استخدمت كميات كبيرة من المياه من مناطق أخرى، ما يعني إمكانية حصول خلل بيئي مستقبلاً بين المناطق، ووجدت أن الصين قد ساهمت في تلويث البيئة من خلال استخدامها كميات كبيرة من الطاقة والموارد لتكوين ثلوج في المنطقة التي تعاني من ندرة المياه.
وربّما تكون هناك مشكلة أخرى أعمق تتعلق بقرب الألعاب الأولمبية من محمية سونغشان الطبيعية الوطنية التي تبلغ مساحتها 4600 هكتار، وما يمكن للثلوج الاصطناعية أن تتركه من آثار سلبية على المحمية. كما يشعر الكثير من ناشطي البيئة بالقلق من التلوث الضوضائي الناجم عن آلات الثلج الاصطناعي، الأمر الذي قد يزعج الحياة البرية في المحمية.