تهجير تحت التهديد... مئات يغادرون مدينة غزة والآلاف باقون

11 يوليو 2024
أعداد محدودة من عائلات مدينة غزة قررت النزوح (عمر القطا/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **انسحاب جزئي وإخلاء قسري:** انسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي جزئياً من حي الشجاعية في غزة بعد عملية عسكرية استمرت عشرة أيام، مما أجبر السكان على النزوح عبر شارع الرشيد وصلاح الدين، وتكدس النازحون في مناطق مثل دير البلح وخانيونس.

- **معاناة النازحين وصعوبة التنقل:** يواجه النازحون صعوبات كبيرة في التنقل بسبب نقص وسائل المواصلات، مما يضطرهم للسير على الأقدام، ويعانون من تفتيش جنود الاحتلال وصعوبة إيجاد مأوى.

- **أوضاع إنسانية متدهورة:** يعاني النازحون من نقص حاد في الغذاء والماء والرعاية الطبية، مما يزيد من معاناتهم، وتزداد الأوضاع سوءاً مع استمرار القصف ونقص المساعدات.

جرى انسحاب جزئي لآليات جيش الاحتلال الإسرائيلي من حي الشجاعية في مدينة غزة صباح الأربعاء الماضي، بعد عملية عسكرية استمرت عشرة أيام، هجر فيها الاحتلال جميع سكان الحي، وحتى من عادوا إليه خلال الأشهر الماضية، والذين صدمتهم أوامر الإخلاء الجديدة، والجميع طلب منهم الاحتلال النزوح عبر طريقين فقط هما شارع الرشيد غربي المدينة، وشارع صلاح الدين شرقاً.
ويتواجد المئات حالياً في مناطق محددة أبرزها مناطق غربي المدينة، بينما يحاول الاحتلال إجبار المزيد من الناس على النزوح عبر مناشير تلقيها الطائرات، وتوضح الممرات التي يتوجب عليهم النزوح عبرها، وضرورة المغادرة وصولاً إلى وسط القطاع، ومناطق غربي مدينة دير البلح، وكذلك غربي مدينة خانيونس، خصوصاً منطقة المواصي المكتظة بالنازحين، لكن يصر البعض على البقاء في مدينة غزة رغم عدم وجود أماكن إيواء في ظل الدمار الهائل الذي خلفه القصف والاجتياح.
وتقدر أعداد النازحين بالمئات، والغالبية نزحوا عبر شارع صلاح الدين، وآخرون عبر شارع الرشيد، والغالبية توجهوا إلى المناطق التي يعيش فيها أقارب لهم في مدارس وخيام مخيم النصيرات، ومخيم دير البلح.
وذكر جيش الاحتلال في المناشير التي يلقيها أن حركة السير ستكون سريعة، ومن دون تفتيش، بهدف الإسراع بإخلاء مدينة غزة ومحافظة شمال القطاع، لكن شهادات متواترة من فلسطينيين نزحوا جنوباً تؤكد اقتراب جنود الاحتلال منهم، وتوجيه أسئلة مختلفة لهم، ما يكذب رواية الاحتلال.
نجا الفلسطيني محمد جودة من مجزرة إسرائيلية في حي الدرج شرقي مدينة غزة، وهو نازح من المنطقة الشمالية إلى مدينة غزة، وهو يصر على رفض النزوح جنوباً، لكن أبناءه الذين نجوا معه من المجزرة يريدون النزوح، ويطالبونه بالسير جنوباً خشية التعرض لمزيد من مجازر الاحتلال.

يحاول الاحتلال إجبار الفلسطينيين على النزوح عبر المجازر والتجويع

قرر جودة النزوح استجابة لطلب أولاده، وعلى الطريق أوقفه جنود الاحتلال الذين كانوا يتمعنون في النازحين، كأنهم يترقبون مرور أشخاص يرغبون في اعتقالهم، وبعد عدة أسئلة عن هويته وعمله، سمح له بالمرور. يقول لـ"العربي الجديد": "لا تتوفر وسائل مواصلات لنقل النازحين، ما يضطرنا إلى النزوح سيراً على الأقدام للوصول إلى المنطقة الجنوبية. مشيت مع العديد من العائلات من مدينة غزة إلى مخيم النصيرات، وهناك بحثت عن شقيقي الذي يعيش في إحدى الخيام للبقاء معه، لكن الخيمة لم تتسع لأفراد أسرتي البالغ عددهم ستة أشخاص، فهي مكتظة بأفراد أسرة شقيقي، ما جعلني أشعر بالندم لأنني قررت النزوح هذه المرة". 
يضيف جودة: "عدد النازحين إلى الجنوب قليل، والسبب أن عدد المتبقين في مدينة غزة قليل، كما أن الغالبية يعتقدون أنهم يغادرون من جحيم إلى جحيم من نوع آخر في الخيام. كنت ممن يرفضون ترك المنزل والنزوح، لكن تم تدمير منزلي بالكامل في قصف عشوائي، وسقط عدد من الأقارب والجيران شهداء، وهناك العديد من الجثامين في الشوارع، ومصابون لا يمكن الوصول إليهم، وبعضهم استشهدوا بينما كانوا ينتظرون المساعدة، لكن إصرار أبنائي دفعني للنزوح رغماً عني". 

يفضل كثيرون البقاء في مدينة غزة على النزوح إلى المجهول (داود أبو الكاس/الأناضول)
يفضل كثيرون البقاء في مدينة غزة على النزوح إلى المجهول (داود أبو الكاس/الأناضول)

يتابع: "كنا نمشي بينما طائرات الاستطلاع فوق رؤوسنا، ولدي أربعة أبناء أحدهم مولع بالتكنولوجيا، ويريد أن يصبح مهندساً، وآخر موهوب في لعب كرة قدم، وابنة تريد أن تصبح صيدلانية، وبينما كنت متمسكاً بالبقاء، كانت تراودني كوابيس حول وقوع مكروه لأي منهم. أخشى من ضياع أحلام اطفالي الأربعة، وهم يحتاجون إلى بيت هادئ ووطن حر".
وأعلن جهاز الدفاع المدني في قطاع غزة، صباح الخميس، خروج أكثر من نصف المعدات التي كانوا يعملون بها مؤخراً عن الخدمة بسبب نقص الوقود، مؤكداً انتشال جثامين نحو 30 شهيداً كانت ملقاة على الأرض في حي الرمال ومنطقة الصناعة غربي مدينة غزة ومنطقة الكتيبة القريبة من حي الرمال وتل الهوا، وكلها مناطق كثف الاحتلال الإسرائيلي عمليات الإبادة والقتل العشوائي فيها مؤخرا بهدف إخلاء مدينة غزة بالكامل.

كثير ممن نزحوا من شمالي غزة جنوباً يريدون العودة رغم تهديدات الاحتلال

وصرح المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، صباح الخميس، بأن العدد الأكبر من أهالي شمالي القطاع يرفضون المغادرة، ويصرون على عدم النزوح جنوباً، وأن العديد ممن نزحوا يريدون العودة رغم المناشير والمساعي الإسرائيلية التي تدفعهم إلى مغادرة المنطقة الشمالية، لثقتهم في عدم وجود ممرات أو مناطق آمنة في جنوبي غزة كما تزعم سلطات الاحتلال.
ولم تسلم خيام ومدارس إيواء النازحين من القصف الإسرائيلي مع زيادة سوء الأوضاع في شمالي القطاع بسبب استمرار توقف دخول المساعدات. نزحت المسنة الفلسطينية ريهام الجمل رفقة أحفادها الثلاثة وزوجة ابنها الذي استشهد في مارس/ آذار الماضي خلال الاجتياح الإسرائيلي لمجمع الشفاء الطبي، وقد انصاعت السيدة الستينية لبكاء أحفادها الذين تشتتوا في الشوارع خلال مرات النزوح المتكرر.

لا مكان آمن للنزوح في قطاع غزة (عمر القطا/فرانس برس)
لا مكان آمن للنزوح في قطاع غزة (عمر القطا/فرانس برس)

تابعت الجمل السير وصولاً إلى شارع صلاح الدين، وهناك عثرت على عربة يجرها حمار أوصلتها مع أحفادها إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، فقررت البقاء بالقرب من المستشفى على أمل إيجاد مكان يؤويهم بعد أن فشلت زوجة ابنها في تأمين مكان للنزوح من خلال الاتصال بعدد من الأقارب بسبب امتلاء جميع المناطق بالنازحين، وهي تجلس حالياً بين الخيام المتواجدة في ساحة المستشفى برفقة أحفادها الثلاثة الأيتام. 
تقول الجمل لـ"العربي الجديد": "كان ابني الشهيد يكرر أن البقاء في مدينة غزة هو أعظم مثال للصمود، وأفضل من حياة المذلة للنازحين في جنوب القطاع، وكنت أؤيده في ذلك، لكنه استشهد، وقلبي مكسور، فقد كان ابني الوحيد على خمس بنات، وجميعهن حالياً نازحات مع أبنائهن إلى جنوبي القطاع. لم أستطع تحمل تعرض أحفادي للخطر، فقررنا النزوح جنوباً، لكننا لا نجد مكاناً يؤوينا". 
تضيف: "عشنا الجوع والعطش والإرهاق خلال الأيام الأخيرة، وأنا أعاني من السكري والضغط، وأعيش معاناة كبيرة للحصول على العلاج، وبداخلي صمود وقوة، فأنا أم وجدة فلسطينية من غزة، لكن الأطفال لا ذنب لهم، ومع عدم توفر حاجتهم اليومية من طعام وماء قررنا النزوح. ما نعيشه في القطاع أسوأ مما حكت لي أمي عنه عندما نزحت من مدينة يافا في عام 1948، ما نعيشه في الحقيقة هو خذلان عربي أكبر مما كان الأمر عليه في زمن النكبة الفلسطينية". 
ويقدر المكتب الإعلامي الحكومي وجود 350 ألف مواطن فلسطيني في المنطقة الشمالية المتمثلة في محافظة شمال القطاع ومحافظة مدينة غزة، وقد نزح المئات منهم مؤخراً لأسباب متعلقة بأسرهم، واستمرار سياسة التجويع المفروضة عليهم وسط محدودية إدخال المساعدات الغذائية التي تتمثل في بعض الدقيق وقليل من المعلبات التي لا تسد جوعهم، فضلاً عن تفشي العطش مع عدم توفر مياه الشرب الكافية، وتكتفي كثير من العائلات بوجبة واحدة يومياً، وتفضل النزوح داخل المنطقة نفسها.
نزح أحمد عليان من حي الزيتون إلى حي النصر غربي مدينة غزة، وقد خرجوا تحت القصف الإسرائيلي، وأصيب عدد من أشقائه خلال النزوح، وهو يؤكد أن النزوح لن يغير شيئاً من الواقع، وأن الموت يلاحقهم، سواء في مدينة غزة أو في المنطقة الجنوبية، وأنه لا وجود لما يسمى بالمناطق الإنسانية، والاستهدافات الأخيرة تكذب كل روايات الاحتلال الإسرائيلي. 

يضيف عليان لـ"العربي الجديد": "الناس في المنطقة الجنوبية يتعرضون للإذلال، ونحن نتعرض لذلك أيضاً، ما يجعلنا نفضل البقاء في مدينة غزة، وعدم النزوح إلى أي مكان آخر، لكن الاحتلال يحاول دفعنا للنزوح، ونخشى في حال نزوحنا أن يحضر الاحتلال مستوطنين لاستعمار مناطقنا. نقدم الدم فداء لأرضنا، ولن يستطيع الاحتلال إزاحتنا عن مدينة غزة". 
ويشدد شقيقه عبد الله عليان على أنه كان يفكر كثيراً في النزوح نظراً لخوف شقيقاته، لكن الكثير ممن الذين نزحوا جنوباً يؤكدون لهم أنهم نادمون على النزوح من مدينة غزة، وأن حياتهم باتت أسوأ، ويعانون أيضاً من الجوع والعطش ونقص الرعاية الطبية والأدوية، ويقول: "هناك ارتباط عاطفي بيننا وبين مدينة غزة، وهذا الارتباط يجعلنا نتمسك بالأرض، لذا قررنا البقاء هنا، وعدم النزوح جنوباً". 

المساهمون