استمع إلى الملخص
- ولاية سوسة أصدرت قرارًا بإخلاء القرية في أغسطس 2023 لضمان سلامة السكان، بعد محاولات فاشلة للتفاوض وتزامنًا مع موسم الأمطار والشتاء.
- على الرغم من الإخلاء، ثلاث عائلات بقيت في تكرونة، متمسكة بأمل ترميم القرية والحفاظ على تراثها، معبرين عن رغبتهم في عودة الحياة إلى القرية.
تحولت تكرونة الأمازيغية البسيطة والبدائية إلى قرية مهجورة بعدما تركها أهلها خشية الانهيارات الأرضية، ويحلم القلة الباقون فيها بعودتها إلى ما كانت عليه بعد ترميمها.
على هضبة بارتفاع قرابة 300 متر، وإلى الشمال من مدينة النفيضة في محافظة سوسة، شُيدت قرية تكرونة، أو القرية الأمازيغية كما تُسمى، بكل ما فيها من عبق الزمن القديم. تكرونة ذات المعمار الفريد وجمال البيوت بجدرانها البسيطة، وألوانها الهادئة، اختارها عدد من السكان الأمازيغ لتشييد منازلهم التي بُنيت من الحجارة بطرق بدائية جداً، ما جعل القرية تُعَدّ من بين أقدم القرى الأمازيغية، بحسب وزارة الثقافة التونسية.
وتقع تكرونة تحديداً في منطقة النفيضة بمحافظة سوسة التي تبعد عن العاصمة 100 كيلومتر. وتحافظ القرية على اسمها الأمازيغي القديم، الذي يرتبط باسم قبيلة أمازيغية. ويصعد الزائرون إلى تلك الهضبة عبر مدرج صخري للمترجلين، إذ لا يمكن الوصول إلى قمتها إلا سيراً على الأقدام.
كل شيء في القرية قديم جداً. فالمنازل بُنيت من الحجارة على الطريقة التي تُبنى بها القرى الأمازيغية في تونس جنوباً. الشكل نفسه وطريقة البناء نفسها والحجارة نفسها. كل منزل له مدخل عبر باب خشبي كبير تلج من خلاله إلى غرفة صغيرة تسمى في تونس السقيفة التي تستقبل فيها الزوار قبل إدخالهم إلى باحة المنزل، لتجد تلك الباحة في المنتصف وتحيط بها عدّة غرف أسقفها مقوسة في شكل منحنٍ مثل القصور أو أسقف المساجد. ولا تشعر خلال الصيف بحرارة الطقس داخل تلك الغرف، ولا بلفح برد الشتاء. فقد شُيِّدَت من الحجارة الطبيعية التي تحافظ على جوّ معتدل داخلها. وتشرف تلك المنازل على السهول الممتدة المغروسة بالزياتين وحقول القمح والشعير بمحافظة سوسة.
وتُعَدّ تلك القرية من أكثر القرى التي يُقبل عليها السياح من مختلف الجنسيات، إذ تتميز بروعة البناء وتناسق العمارة، التي تعكس بوضوح تاريخ العمارة الأمازيغية القديمة من خلال البيوت المبنية بالطوب والحجارة، وهي المواد الأساسية التي كانت تستخدم منذ قرون لبناء الدور في تونس، وفي تلك القرية تحديداً التي كان لا يزيد تعداد سكانها على نحو 600 شخص.
لكن الانهيارات الصخرية المتكررة دفعت السلطات إلى إغلاق القرية أمام السكان المحليين وإغلاق بعض المرافق الترفيهية الموجودة فيها، وإخلاء جميع سكانها، بالإضافة إلى منع صعود الزوار إليها، إذ أصدرت ولاية سوسة في 30 أغسطس/ آب 2023، قراراً إدارياً يقضي بوجوب إخلاء السكان من المناطق المهددة بالانهيار بالقوة بعد محاولات عدة للتفاوض معهم، وذلك نظراً لأنّ "خطورة الوضعية الحالية لمنطقة تكرونة تهدد سلامة سكان القرية، وخصوصاً أن المنطقة كانت على أبواب أمطار الخريف والشتاء الموسمية" آنذاك.
كذلك وقع الاتفاق على "إعداد تقرير مفصل عن الوضعية ورفعه إلى أعلى هرم في السلطة وإجراء طلب موحد من الإدارات المتداخلة كافة، وعلى رأسها السلطة الجهوية، لعقد مجلس وزاري خاص بالموضوع في أسرع وقت ممكن". العديد من سكان تلك القرية هجروا بيوتهم منذ سنوات، فيما امتثل أغلب سكان القرية لقرار الإخلاء، حتى بات المكان شبه قرية مهجورة.
خلال التجول في أغلب الأزقة الضيقة لتلك القرية، لا ترى حركة فيها ولا تسمع أصواتاً سوى صفير الرياح وطقطقة أبواب المنازل، بسبب قوة الرياح في أعلى تلك التلة.
وباتت جدران بعض البيوت متصدعة، وبالكاد تكون حجارتها متماسكة. كذلك فإن أبوابها الموصدة بعضها مكسور تماماً بسبب عدم ترميمها، حتى باتت خاوية لا تحمل سوى ذكريات من كان يعيش فيها. البعض رفض أن يهجر مسكنه في تلك القرية، ولم يعد يعيش فيها سوى ثلاث عائلات، على الرغم من تلقيها تنبيهات مستمرة بضرورة إخلاء المكان، بسبب خطورة البقاء في تلك الهضبة المهددة بالانهيار في أية لحظة، بسبب عدة عوامل طبيعية، أهمها الأمطار شتاءً، وبعض الهزات الأرضية التي باتت تشهدها عدّة مناطق في تونس أخيراً.
توقد الحاجة ذهبية الحطب في فرنها التقليدي من الطين لتطهو الخبز في باحة منزلها المطل على مساحات شاسعة من أراضي الزيتون، وتلقي بصرها على أبعد نقطة على تلك الأراضي الشاسعة الممتدة، وكأنها في أعلى قلعة أو حصن تاريخي. تقول إنّها عاشت طفولتها في تلك القرية مع الأهل والجيران، تتذكر تفاصيل المكان وأغلب سكانه الذين رحلوا تاركين وراءهم بيوتاً باتت مظلمة لا روح فيها، بعد تهديدهم من قبل القوة العامة لإخلاء المكان. ولم يعد حتى الزائرون يتوافدون إلى المكان بالعدد الكبير كما السابق، بسبب تشديد الرقابة على منافذ القرية لمنع الزوار خوفاً من أي انهيار قد يحدث فجأة، وخصوصاً بعد انهيار صخرة كبيرة وقعت على بعض المنازل". تضيف: "لم تسبب الحادثة أية أضرار أو إصابات بشرية. مع ذلك، اتخذت السلطات قراراً بإخلاء المكان. ولكن أنا وبعض السكان رفعنا قضية، مطالبين بترميم المكان وعدم الامتثال لقرار إخلاء بيوت تحمل ذكريات عشرات الأجيال منذ قرون".
يحلم من بقي في تلك القرية بعودة الحياة إليها وترميمها بدل طردهم منها خشية انهيارها في أية لحظة. وتشير فاطمة (اسم مستعار) إلى أنها ومن بقي في القرية ما زالوا يتلقون تنبيهات مستمرة بإخلاء بيوتهم. ولكنها ترفض ترك منزل عاش فيه 13 جيلاً تقريباً. وعلى الرغم من بقائها وعائلتين فقط في تلك القرية، إلا أنها لا تشعر بالخوف أو الرهبة من المكان الموحش. لا تزال تعيش على أمل ترميم تلك القرية والسور الذي يحيط بها وعودة سكانها الأصليين.