يتغير مذاق القهوة بإضافة قطرات من ماء الورد المُقطّر الذي يعطيها نكهة خاصة ورائحة تمزج بين اللونين الأبيض الشفاف والبني الغامق، وقد اعتادت عائلات جزائرية كثيرة تسكن في شرقي البلاد خصوصاً وغربها على هذا المذاق الفريد.
تواصل الخالة سكينة (74 عاماً) تقطير الأزهار يدوياً منذ أربعة عقود. نشأت على تتبع طريقة تجهيز والدتها الأزهار وتحضيرها كي تصبح مهيئة لعملية التقطير، علماً أن والدتها كانت تعلمت هذه الحرفة التقليدية بدورها من جدتها المتحدرة من منطقة وادي سقان (شرق). وقد حافظت جميع نساء عائلة سكينة على الحِرفة حتى بعدما انتقلن إلى بيوت أزواجهن، وصرن يشاركن في يوميات جميلة تعبق بروائح الأزهار، ثم جعلن مع مرور الزمن الحرفة مهنة لكسب الرزق.
تقول الخالة سكينة لـ"العربي الجديد": "كسبت الكثير من هذه الحِرفة التي أصبحت شغفاً لا مثيل له بالنسبة لي في الأيام الجيدة والسيئة على حدّ سواء".
"القطّار"
مع حلول الربيع يبدأ التحضير لممارسة هذه الحرفة. وينطلق قطف الأزهار في الفترة مطلع مارس/ آذار ويستمر إلى نهاية مايو/ أيار، ثم تشرع النساء في التقطير الذي لم تتغير طريقته بمرور السنوات، وتحوّل صناعته إلى المعامل.
وتتميز التقنية التقليدية في تقطير الأزهار والورد بأنها معقّدة وبسيطة في الوقت ذاته، وتستخدم فيها وسائل تقليدية في مقدمها أداة القطَّار، وتتطلب انتظار ساعات كي تتحوّل أوراق الأزهار والورود إلى بخار يصبح بدوره قطرات ماء ورد وماء زهر مركّز ومكثّف.
وتعتمد عملية تقطير الأزهار على استخدام "القطّار" الذي يتألف من جزأين؛ الأول سفلي يطلق عليه اسم "الطنيجرة" التي توضع فيها باقات الأزهار، والثاني علوي يطلق عليه "الكسكاس"، وهو إناء يحتوي ثقوباً كثيرة.
ويتضمن "القطَّار" فتحتين مرتبطتين بأنبوبين، يستخدم الأول في استخلاص ماء الورد وإيصاله مباشرة إلى مكان تكثيف البخار، أما الأنبوب الثاني فيربط بالماء الخاص بالتبريد كلما وصلت الكمية إلى درجة غليان قصوى.
ويحتوي "القطّار" أيضاً على تجويف مقعّر من الداخل يسمى "رأس القطار"، ويشبه القبة من الخارج حيث يتكثف البخار فيه للحصول على قطرات ماء الورد المكثّف.
وتوضع في "القطَّار" مجموعة من الأزهار المقطوفة حديثاً قبل أن تذبل، ثم على نار هادئة بدرجة الغليان. وتوضح الخالة سكينة أن التخلّص من الماء السّاخن من "القَطَّار" يحتاج إلى حرفية عالية، إذ "يجب أن تحرص المرأة على تجديد الماء المفقود بفعل الغليان والتبخّر، فإضافة ماء بارد يساعد على غليانه مجدّداً، واستخلاص كميات أكبر من ماء الورد".
تقنية دقيقة
وتصف سهام (32 سنة)، وهي البنت الكبرى لـ"سكينة"، في حديثها لـ"العربي الجديد"، خطوات التقطير الأولى بأنها "دقيقة يجب تنفيذها بإتقان باستخدام أدوات مصنوعة من مادة الألمنيوم، ثم ننتقل بعدها مباشرة إلى المرحلة الثانية من العملية التي تتمثل في تجميع الماء الذي نحصل عليه من جهاز التقطير قبل أن يتحلل في الهواء، ووضعه في زجاجات تغلق بإحكام كي تحافظ على النكهة الطبيعية الخاصة. والزجاج يساهم في الحفاظ على رائحة الأزهار الزكية لمدة طويلة جداً، واستخدمها أفضل بكثير من وضعه ماء الورد المقطّر في أوانٍ بلاستيكية. وبين أنواع الأزهار المستخدمة في التقطير الياسمين والبنفسج ونبات العطرية أو "العطرشية" وإكليل الجبل، علماً أن هناك صعوبة في جمع كميات من هذه الزهور لاستعمالها في التقطير.
صناعة تقليدية
وما زال بعض تجار الأسواق الشعبية يحافظون على بيع أدوات تقطير الورد المصنوعة غالباً من الألمنيوم أو النحاس التي تقتنيها النّساء في شكل اعتيادي.
وتعد حرفة تقطير الورد أو الزّهر من أعرق الحرف التقليدية في مدن جزائرية عدة، منها تلمسان وقسنطينة وعنابة وميلة والبليدة التي يطلق عليه اسم مدينة الورود، والقصبة. وما زالت عائلات تحافظ على عادة تقطير الورد وتسويقه وبيعه.
ويتحدث كريم مومني، أحد باعة المواد التقليدية في منطقة السويقة بمدينة قسنطينة، لـ"العربي الجديد"، عن أن هذه الحرفة كانت في طريقها إلى الزوال مع التطور الصناعي الذي جعل معامل تصنع ماء الورد في المصانع وتبيعه في عبوات بلاستيكية بأسعار أرخص من الصناعات اليدوية التقليدية. وسعر قارورة ماء الورد التقليدي بسعة ليتر ونصف ليتر يتجاوز 9 دولارات، فيما تباع قارورة الزهر البلاستيكية بأقل من 2.5 دولار.
في المجالس والمراسم
ولا تستغني العائلات في قسنطينة وميلة شرقي الجزائر عن ماء الورد التقليدي، خاصة أن الكثير من العائلات تستعمله كوسيلة لإضفاء نكهة ومذاق طيب للحلويات التقليدية مثل البقلاوة والمقرود، كما يستخدم في تزيين مجالس القهوة والشاي لدى قدوم الضيوف أو في الأعراس وحتى في الأيام العادية، وهو يوضع في أوانٍ نحاسية تسمى بـ"المرشّ" الذي يزيّن طاولات القهوة في المناسبات وعند استقبال الضيوف، كما يقدم هدية لمن يزور منطقة للمرة الأولى، أو لشخص عزيز يقيم حفلة زواج أو ختان.
وتحتفل مدن مختلفة بتجهيز العروس بأوانٍ نحاسية يكون من ضمنها المرشّ الذي تعبئه المرأة بماء الورد التقليدي لدى انتقالها حديثاً إلى بيت الزوجية، كما يبدأ استقبال عائلة العروس ودخولها بيت زوجها للمرة الأولى برشّ ماء الورد التقليدي كعربون محبة ونقاء وصفاء وتفاؤل بوصول الوافدة الجديدة على العائلة، بأمل أن تزهر حياتها الجديدة وتعيش أياماً حلوة بعطور مختلف الأزهار.
وتصف الخالة فاطمة بن يحي (56 عاماً)، المتحدرة من مدينة عنابة شرقي الجزائر، التمسك بتقاليد تقطير الأزهار باستخدام مثل شعبي يقول "أحّب الجديد ولا تفرط بالقديم، لذا يكون الماء المقطّر بطريقة تقليدية ذات نكهة خاصة ومذاق مميز، رغم رواج الصناعي".
وقبل ثلاث سنوات فقط، أطلق في منطقة قسنطينة شرقي الجزائر مهرجان سنوي مخصص لتقطير الأزهار، وحدد موعده في مايو/ أيار، ويشهد مشاركة فرق موسيقية تقليدية، مثل "العيساوة" و"الهدوة" وفرق موسيقى "المالوف" العريقة، وعروض للأزياء التقليدية.