عند الساعة السابعة من صباح الجمعة الأول من ديسمبر/كانون الأول، أغار طيران الاحتلال الإسرائيلي على مناطق متعددة في قطاع غزة، وكان تركيز القصف واضحاً على مناطق جنوبي القطاع التي أصبحت جزءاً من دائرة الاستهداف الكبيرة.
وأجبر تجدد القصف الآلاف من سكان مناطق شرقي مدينة خانيونس على العودة إلى مراكز النزوح بعد أن غادرها بعضهم إلى منازلهم المدمرة جزئيا خلال أيام الهدنة، في حين لم يغادر آخرون مراكز الإيواء إلا لتفقد منازلهم وإحضار بعض من حاجياتهم اللازمة لمواجهة البرد، أو بعض المواد الغذائية، وفي الوقت ذاته، منع الاحتلال سكان مدينة غزة وشمالي القطاع النازحين جنوباً من العودة إلى مناطقهم، وأطلق جنود الاحتلال الرصاص على عدد ممن حاولوا العودة.
وألقت طائرات الاحتلال مناشير على سكان خانيونس لتحذيرهم من الاقتراب من المنطقة الشرقية في المدينة، وتطالب سكانها بالنزوح إلى مراكز الإيواء في مدينة رفح لأن مدينة خانيونس "أصبحت منطقة قتال خطيرة".
ولا يعرف النازحون إلى المناطق الجنوبية مصيرهم في ظل استمرار القصف منذ انتهاء الهدنة الإنسانية، والذي استهدف منازل وتجمعات سكنية. ووفق بيان لوزارة الصحة في غزة، ففي اليوم الأول لتجدد القصف بعد الهدنة، وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 200 شهيد، فضلاً عن نحو 500 جريح، عدد كبير منهم من النازحين من الشمال إلى جنوبي القطاع.
يعتبر مخيم رفح في جنوب قطاع غزة ثاني مخيمات القطاع اكتظاظاً بالنازحين بعد مخيم خانيونس، ويأتي في المرتبة الثالثة مخيم دير البلح بوسط القطاع، لكن مخيم رفح يشهد توافداً كبيراً للنازحين، خصوصاً بعد تعرض مخيم "يبنا" لغارات طائرات الاحتلال التي خلفت شهداء ومصابين غالبيتهم من النازحين من مدينة غزة وشمالي القطاع.
خلف أول أيام تجدد القصف أكثر من 200 شهيد ونحو 500 جريح في غزة
أصيب عدد من أفراد عائلة محمد الأخرس داخل "مخيم يبنا" خلال استهداف المخيم الجمعة، وهم نازحون من مدينة غزة. يقول الأخرس لـ"العربي الجديد": "خلال ساعة واحدة، استهدف الاحتلال العديد من مناطق مدينة رفح، ومن بينها المخيم الذي كان يضم الكثير من النازحين. الآن كل سكان مدينة رفح والمخيم ينتظرون الخطر القادم".
ويضيف: "بالأمس كان الأطفال والكبار يكررون الشهادتين عندما يشتد القصف، فلا أحد يعرف إن كانت الغارة ستصيبه، وبالتالي، ينطق الشهادتين تحسباً لاستشهاده، وابني عبد الله البالغ 5 سنوات كان يكررها بينما يلتصق بي خوفاً. يكذب الاحتلال مؤكداً أن جنوب القطاع منطقة آمنة، لكنه حولها إلى منطقة خوف، لكنه لن يتمكن من تهجيرنا إلى سيناء مهما فعل".
وزادت مخاوف الغزيين عندما نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي خريطة لمناطق الإخلاء التي تجب عليهم مغادرتها، والتي تضمنت تقسيم قطاع غزة إلى بلوكات، يحدد من خلالها الاحتلال الأماكن التي سيستهدفها، مطالباً السكان بمغادرتها مسبقاً، وتضمنت الخريطة مناطق في جنوب القطاع نزح إليها آلاف الغزيين من الشمال، وهو ما قاد كثيرون إلى فكرة التهجير القسري التي يهدف عبرها الاحتلال إلى نقل الغزيين إلى سيناء المصرية، خصوصاً أنه حدد منطقة عازلة بين الحدود المصرية، ووضع عليها علامة حمراء.
وذكرت البيانات المُحدثة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في غزة أنه حتى 29 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كان ما يقرب من 1,1 مليون نازح يحتمون في 156 منشأة تابعة للوكالة في محافظات قطاع غزة الخمس، متضمنة مناطق شمالي القطاع ومدينة غزة، في حين أن ما يقارب 958 ألف نازح يقيمون في داخل 99 منشأة في مناطق وسط القطاع وخانيونس ورفح.
وصل نحو 2000 نازح إلى ملاجئ "أونروا" في جنوب غزة خلال الهدنة
ولا يزال عدد النازحين يتزايد بشكلٍ ملحوظ، إذ شهدت أيام الهدنة وصول نازحين جدد، ورصدت الوكالة وصول ما لا يقل عن 2000 نازح إضافي إلى ملاجئها في المناطق الوسطى والجنوبية، والتي تضم أربعة أضعاف طاقتها الاستيعابية، بينما تعمل ضمن خطة طوارئ نتيجة المساعدات المحدودة التي دخلت عبر معبر رفح البري، والتي توقفت مجدداً مع تجدد القصف، مع مقتل 111 عاملاً تابعاً للوكالة، وهو أعلى رقم لأعداد القتلى من موظفي الأمم المتحدة خلال نزاع واحد منذ إنشائها.
نزحت عائلة عبد الرحيم صيام (39 سنة) من مدينة غزة جنوباً إلى حي الأمل بوسط مدينة خانيونس، وبعد قصف الاحتلال الحي نهار الجمعة، نزحوا مجدداً إلى قلب المدينة، لكن القصف لاحقهم، ليدمر منزلاً بالقرب من المنزل الذي نزحوا إليه. خلال القصف، أصيب ابن عبد الرحيم الأصغر يامن (5 سنوات) بكسر في ساقه اليمنى، فاضطر صيام إلى النزوح للمرة الخامسة، بينما لا يعرف إلى أين يذهب، فكل الأماكن معرضة للخطر.
يقيم صيام حالياً في إحدى الخيام المنصوبة داخل مجمع ناصر الطبي مع زوجته و3 من أبنائه، من بينهم ابنه المصاب الذي عولج كسره في المستشفى، وقد طلب الطاقم الطبي منه أن يبقى قريباً بضعة أيام، ثم يمكنه بعدها المغادرة إن رغب في ذلك. ما جعله يباشر البحث عن مكان للنزوح السادس، على الرغم من صعوبة إيجاد مكان لأن جميع مناطق الجنوب باتت شديدة الاكتظاظ بالنازحين.
يقول صيام لـ"العربي الجديد": "نزحنا من حي الزيتون شرقي مدينة غزة إلى مدرسة لوكالة أونروا في حي النصر، ثم نزحنا إلى حي تل الهوا، ثم إلى وسط قطاع غزة، ومن هناك وصلنا إلى منزل أحد أصدقائي في مدينة خانيونس، والآن مطلوب مني بعد الخروج من المشفى، حيث عالجت طفلي، المبيت في الشارع تحت القصف. الجميع ينتظرون أن يصيبهم الدور، فبعد أن أبادوا منازلنا في مدينة غزة، جاء الدور على مناطق جنوبي القطاع، والعديد من النازحين من حي الزيتون مثلي استشهدوا في القصف الإسرائيلي الأخير، ورأيت، يوم الجمعة، شهيدين من الحي في مجمع ناصر الطبي. إننا نهرب من الموت إلى الموت، وعلمت خلال أيام الهدنة أن منزلي دمر بالكامل، أي أن مصير عائلتي أصبح البقاء في الشارع".
ويوضح شقيقه عائد صيام أن عائلته موجودة داخل مدرسة لإيواء النازحين بالقرب من مجمع ناصر الطبي، وأنه حاول إيجاد مكان لشقيقه بعد إصابة نجله، لكن مدارس وكالة "أونروا" باتت ترفض استقبال المزيد من الأسر النازحة، خصوصاً من توافدوا خلال اليومين الأخيرين، لأن المدارس لا يمكنها استيعاب مزيد من الأعداد.
ويقول عائد لـ"العربي الجديد": "الكثير من العائلات تضررت منازلها في مدينة خانيونس، وهؤلاء لا يجدون مكاناً يحتمون فيه داخل مدينتهم، فالقصف الأخير دمر عشرات المنازل. حالياً أحاول إدخال زوجة شقيقي وأطفاله إلى المدرسة، على أن أبيت مع شقيقي في الممر إن وافقت إدارة مركز الإيواء".
تضرر منزل رفيق عوض الله (45 سنة) في مخيم الشابورة بمدينة رفح بعد قصف قلب المخيم، لكنه نجا من القصف للمرة الثانية خلال العدوان، بعد أن نجا من مجزرة ارتكبها الاحتلال بحق جيرانه من عائلة أبو ركبة في 27 أكتوبر، ورغم الأضرار الجزئية التي لحقت بالمنزل، إلا أنه مصمم على البقاء فيه.
يعيش عوض الله بالقرب من عدد من مدارس وكالة أونروا، حتى إنه ساعد طواقم الوكالة متطوعاً خلال الأيام الأخيرة، ويشير إلى أن الاكتظاظ يتزايد، ما جعله يقرر البقاء في منزله المتضرر، ويحاول إزالة بعض الركام من داخله، فالمنزل الذي تبلغ مساحته نحو 100 متر، يوجد في داخله نحو 40 فرداً من أقاربه النازحين.
يوضح عوض الله لـ"العربي الجديد": "يعيش الجميع في جنوب القطاع مأساة كبيرة، وفي مدينة رفح، على وجه التحديد، يزيد القلق لأننا قريبون من الحدود المصرية، والناس توجه الكثير من التساؤلات حول التهجير، وهل من الممكن أن يحدث أم لا، وبشكل عام، الكل يرفض التهجير، ولن نغادر إلى سيناء مهما حصل، لكن في نفس الوقت، كلٌ منا مسؤول عن العديد من الأرواح من أبنائه وأحفاده، وهو نفس الوضع الذي تعرض له أجدادنا خلال نكبة عام 1948، لكننا لا نريد أن يتكرر الأمر، وأملنا الوحيد أن ينتهي العدوان".