تعيش مجتمعات أوروبية عدة هذه الأيام ظروفاً يصفها كثيرون بأنّها أصعب وأقسى من ظروف الموجة الأولى لوباء كورونا في الربيع الماضي، فتدابير الإغلاق تعود بالترافق مع التصاعد السريع للإصابات
اللونان البرتقالي والأحمر على خريطة انتشار فيروس كورونا الجديد في القارة الأوروبية، مع ما يمثلانه من خطورة على مستوى ارتفاع عدد الإصابات سريعاً، لا يبشران مواطني دول القارة إلّا بأنّ الخريف الحالي والشتاء المقبل سيكونان بمثابة "تسونامي" وبائي، كما يسمى الوضع في بروكسل، عاصمة بلجيكا والاتحاد الأوروبي. أما في الشمال الاسكندينافي فقد عاد الذعر، وأغلقت جزيرة غرينلاند (التابعة للدنمارك) على نفسها صباح يوم الجمعة الماضي، فيما كوبنهاغن تحذّر مواطنيها من تزايد الحالات المسجلة يومياً، وتتجاوز ما كانت عليه في إبريل/ نيسان الماضي.
تغير أنماط
في السويد، لم تنجح "مناعة القطيع" في ما يظهر، خصوصاً مع تقرير طبي مثير للجدل عن 25 ألف إصابة "كورونا مزمنة"، أي أنّ الآلاف صار لديهم الفيروس ثابتاً كمرض مزمن ومتجول بين المواطنين، والوضع يقسم هذا البلد الاسكندينافي، المجاور لفنلندا والنرويج براً وللدنمارك بجسر بحري، بين أقاليم ومدن موبوءة وأخرى أقل ضرراً.
لكن، في العموم، فإنّ الناظر إلى خريطة السويد الطبية يراها آخذة نحو الأحمر والبرتقالي، مثل ألمانيا وبقية دول القارة العجوز، التي تعيش تحت وطأة الفيروس المؤثر على حياة ويوميات الناس.
بالنسبة للسلطات الدنماركية على الأقل، صار السفر إلى دول أوروبا غير مرغوب فيه بالمطلق، فخارجية كوبنهاغن لم يعد أمامها سوى اليونان والنرويج من بين الدول المسموح بالسفر إليها، بعدما وجدت نفسها مضطرة مساء الخميس الماضي إلى دعوة مواطنيها إلى التوقف عن السفر إلى بقية دول القارة، إلّا للحالات "الضرورية والاضطرارية جداً". وجدت رئيسة وزراء الدنمارك، ميتا فريدركسن، أمام تصاعد الإصابات اليومية إلى أكثر من 700 حالة، وتحذير خبراء من أنّ رقم المصابين يمكن أن يصل إلى 600 ألف، من بين نحو 5.5 ملايين نسمة، نفسها في وضع حرج أمام ضرورات "إغلاق أو لا إغلاق". الاقتصاد يعاني، ومحتجون يقولون إنّهم وصلوا إلى حافة الإفلاس، فيما يحتج آخرون على "تغول السلطات بفرض الكمامات"، وشكاوى الأطباء من "فقدان العيادات للقاح الإنفلونزا الموسمية"، ما يعني مخاطر كثيرة على كبار السن والحوامل. مأزق السلطات والقلق من أن يصبح النظام الصحي الإيطالي، الذي شهد معاناة كبيرة في الربيع، نموذجاً بإصابة 1 من كلّ 10 دنماركيين، وتجاوز الإصابات خلال أسبوعين، 30 لكل 100 ألف مواطن يحير السلطتين الصحية والسياسية فيما بقي لديهما من إجراءات لم تتخذاها. اليوم، لا يسمح بركوب الحافلات والقطارات من دون كمامات، وبالرغم من ذلك فإنّ الاكتظاظ يسبب مشكلة أخرى، إذ لا ضمانة أنّ مترو العاصمة كوبنهاغن، مع دخول البلاد فصل الشتاء، سيكتفي بالكمامات لوقف تسرب الفيروس للمتنقلين.
أمر صعب آخر لم تعشه دول الشمال الأوروبي سابقاً، هو الاضطرار لإلغاء الاحتفالات بعيد الميلاد. فرؤساء وزراء الدنمارك، ميتا فريدركسن، والسويد، ستيفان لوفين، والنرويج، إيرنا سولبيرغ، يعيشون مأزق الطلب من المواطنين إلغاء أجواء الـ"كريسمس"، وهي سابقة، سواء في السلم أو الحرب. ويتزامن مع الـ"كريسمس" تناول الكحول، فمن دون شرب لا يحتفل موظفو القطاعين العام والخاص بغداء الميلاد. وهذا ما اضطر فريدركسن للتحذير من أنّ "الشرب يعني بيئة انتقال سريع للوباء، فالناس حين يشربون لن يسيطروا على تنفسهم ورذاذ أفواههم الناقل للعدوى". إلى هذا المستوى تذهب الحكومة في ذعرها من الموجة الثانية. الشرطة تقف عند أبواب مطاعم وحانات لترى وتتدخل إذا لم يلتزم الضيوف والمضيفون بشروط التباعد والوقاية بالكمامات، وحانات الليل يمنع عليها استقبال أكثر من 50 شخصاً، ولم تعد تفتح أبوابها حتى الفجر، وربما تصبح "حياة الليل" الهدف المقبل، ليس في الدنمارك وحدها، بل في دول أخرى. مواطنون كثيرون، مدعومين بتقارير اختصاصيين في علم الاجتماع وعلم النفس، باتوا تحت وطأة "الوحدة والضجر والمعاناة النفسية". مواقع التواصل الاجتماعي تعج بشكاوى عن الشعور بالعزلة والوحدة وتغير أنماط حياة الناس خلال سبعة أشهر تعتبر بنظر الاختصاصيين التجربة البشرية الأشمل في فهم تأثيرات العزل والوحدة على الوضع النفسي للناس.
بعض تفاصيل تسارع الشكوى من كورونا، وذعر عودته المتسارعة تلمسه العاصمة الإسبانية مدريد التي تتحمل وحدها ثلث الإصابات الإسبانية. هناك، يحظر السفر من المدينة وإليها، إلّا بهدف العمل والدراسة. تُفرض تشديدات على التواصل بين الناس، وتقيم الشرطة حواجزها للتأكد من تطبيق حظر التنقل، ومراقبة تطبيق إغلاق المطاعم والبارات والفنادق (التي لا يجب أن يكون عدد مرتاديها ونزلائها أكثر من 50 شخصاً) قبل ساعة من انتصاف الليل، وقبل ساعتين في حالة النوادي والجمعيات، التي كانت ملاذاً للهروب من العزلة الاجتماعية. كذلك، تحظر إسبانيا على مواطنيها المناسبات الاجتماعية لأكثر من 6 أشخاص يعرفون بعضهم. وزير الصحة في البلاد، سلفادور إيا، يؤكد للصحافة أنّ إسبانيا "لا تسيطر على الوباء، والحكومة تناقش إمكانية فرض منع السفر بين أقاليم البلاد".
الانهيار المتوقع
التسارع في موجات الإصابات الأوروبية بكورونا يعيد المشهد إلى بداياته في القارة، أقله في 21 بلداً بحسب الإحصاءات. فخلال الأيام الماضية كانت فرنسا تعيش حظر تجول في عدد من مدنها، وتفرض أيرلندا على مواطنيها عدم الابتعاد عن مناطق سكنهم أكثر من 5 كيلومترات. إيطاليا التي ضربتها بقسوة موجة الربيع تعيش ذعر الانهيار الصحي التام، ونشرت الحكومة قرب نابولي جنوداً "لمحاصرة الوباء" في أرزانو، بعدما أصبحت مدينة "حمراء" لكثرة الإصابات فيها. كانت سياسة الإغلاق في الربيع الماضي قد أنقذت أقاليم الشمال الإيطالي من الانهيار، وسط تهرب أوروبي من مساعدة شقيقتهم، استغله الصينيون ليدخلوا على الخط ويقدموا المساعدة لروما. ويبدو أنّ كورونا إيطاليا سيعود بعدما تنفست البلاد قليلاً في الصيف، فمن 12 إصابة لكلّ 100 ألف مواطن في أغسطس/ آب الماضي، ها هي البلاد تسجل 86 إصابة لكلّ 100 ألف مواطن. ويصف الاختصاصيون تصاعد الأرقام هذا بـ"تزايد دراماتيكي"، ما استدعى تطبيق حظر تجول ليلي، وإغلاق المدارس أبوابها.
يحاصر انطلاق الموجة الثانية للوباء جمهورية التشيك، لتحتل مركزاً متقدماً في عدد الإصابات بالقارة، بعد ثلاثة أشهر فقط من إعلان براغ "هزيمة كورونا" حين أقامت احتفالات شعبية بمناسبة "الانتصار"، أما اليوم فلا يبدو هناك مزاح مع هذا الوباء الهاجم مجدداً على جمهورية التشيك بأكثر من 15 ألف إصابة يومياً، مذكراً أوروبا من ورائها بأنّ المعركة طويلة.
والتشيك مثل إيطاليا لا خيار أمامها في ما يبدو سوى العودة إلى سياسة الإغلاق مجدداً قبل أن تنهار المستشفيات غير القادرة على استيعاب كلّ هذه الأعداد، والتي بسببها ذهبت روما لتشغيل ما يسمى "مستشفيات الطوارئ" التي شيدتها بين شوطي موجتي كورونا.
بلجيكا باتت تشهد حظر تجول ليلياً في العاصمة بروكسل. البلاد الواقعة في قلب "تسونامي كورونا" هي اليوم من الأكثر تضرراً، عندما تقارن الإصابات والوفيات بعدد السكان. وضع بلجيكا صعب جداً، وقد شهدت سجالاً حول غرابة تصرف بعض مواطنيها في الصيف على الشواطئ، تحت مسميات "تحدي كورونا" لتتدخل الشرطة في مناسبات مختلفة لفض اشتباكات مجموعات سكانية اختلفت حول خطورة العدوى وارتباطها بالاكتظاظ الشبابي على الشواطئ. وزير الصحة البلجيكي فرانك فاندابروك اعترف الأسبوع الماضي بأنّ بلده "أكثر الدول الأوروبية تأثراً، فنحن نقترب من تسونامي، ونقترب أكثر من فقدان السيطرة على الوباء". الوزير أشار في تصريحاته إلى وضع بروكسل المأساوي في العدوى "فهي أكثر بـ50 في المائة من إصابات باريس ومدريد". الموجة الثانية أصابت وزيرة خارجية بلجيكا صوفي فليمس حتى، لكن من دون أن تصير نزيلة في قسم العناية المركزة. الإجراءات المتخذة تشبه إلى حد ما غيرها، فهناك إغلاق للمطاعم والمقاهي في وجه الزائرين، وخدمات التوصيل تعمل حتى العاشرة مساء فقط، كما تتدخل السلطات السياسية لتفرض بالأمن والجيش حظر تجول من منتصف الليل حتى الخامسة فجراً، ويمنع بيع الكحول بعد الثامنة مساء، ولا يسمح بالتواصل سوى بين زبون واحد والبائع.
كذلك، تعود ألمانيا إلى مشهد كورونا الأوروبي، بعدما عانت من الموجة الأولى، فمع تسارع وصول "تسونامي كورونا" ليست ألمانيا بمعزل عما يصيب جيرانها. وزير الصحة، ينس سبان، أبدى خشيته من الأيام المقبلة، واتفق مع مدير معهد الأمصال الوطني، لوثر فيلر، أنّ الخطر هو في استمرار الناس بإقامة احتفالات جماعية وعدم الالتزام التام بالإرشادات. المستوى السياسي الألماني عبّر عن امتعاضه من تصرفات المواطنين، وأعاد التحذير من إجراءات جديدة، وهو ما أدى إلى ذعر بين بعض المواطنين دفعهم إلى المتاجر لشراء منظفات ومعقمات خشية من شدة الإجراءات. ومن المفارقات التي سجلها مركز الإحصاء الألماني الرسمي (دوستاتيس) زيادة شراء الألمان ورق المراحيض بنحو 89 في المائة، ومطهرات اليدين بأكثر من 72 في المائة.