استمع إلى الملخص
- الحصار ومنع وصول الإمدادات الطبية وسيارات الإسعاف أسفر عن تدهور الوضع الإنساني، دمار البنية التحتية، وظروف معيشية مأساوية في مراكز الإيواء، مع شهادات عن جثامين في الشوارع وضحايا تحت الركام.
- أفراد الدفاع المدني يحاولون تقديم المساعدة ونقل المصابين للمستشفيات، فيما النازحون يواجهون خيارات صعبة بين الموت والنزوح، مع قصص شخصية تعكس الأثر الإنساني العميق للعدوان والحلم بالعودة وإعادة بناء الحياة.
كان مخيم جباليا يضمّ أكبر كثافة سكانية بين المخيمات الفلسطينية في قطاع غزة قبل بدء العدوان الإسرائيلي، وتعرض للقصف والاقتحامات بشكل متكرر، ما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من سكانه.
يتعرّض مخيم جباليا في شمالي قطاع غزة خلال الأيام الأخيرة لقصف إسرائيلي كثيف، عبر كمية غير مسبوقة من القذائف الثقيلة، ما يؤدي إلى دمار كبير في المنازل، خصوصاً على أطراف المخيم، في ظل محاولات جيش الاحتلال المتواصلة لتدمير أكبر مخيمات القطاع الثمانية قبل اجتياحه، والذي يتزامن مع إصرار بعض سكان المخيم على رفض المغادرة.
ويمنع جيش الاحتلال سيارات الإسعاف وأي إمدادات طبية من الوصول إلى المخيم المحاصر من جميع الجهات، والذي حرم الكثير من الموجودين داخله من المأوى، بعد أن دمّر القصف وأحرق كل شيء تقريباً. واتجه كثيرون نحو آخر مراكز الإيواء في منطقة الفالوجا غربي المخيم، في ظل ظروف معيشية مأساوية، كما انهارت منظومة الدفاع المدني بسبب شدة القصف، بينما تؤكد شهادات سكان المخيم أن عشرات الجثامين ملقاة في الشوارع وأن كثيرين قضوا تحت الركام.
ويحاول بعض أفراد الدفاع المدني التمركز في المناطق القريبة من أطراف المخيم من الناحية الغربية من أجل إغاثة المصابين، ونقل بعضهم إلى المستشفى الأردني في حي تل الهوا بمدينة غزة، والذي قررت إدارته استيعاب أعداد المصابين والجرحى من المناطق الشمالية بسبب عدم وجود مستشفيات.
وصل براء عبد العال (19 سنة) مع أسرته إلى منطقة الجلاء في مدينة غزة، بعد مغادرة منزلهم في منطقة الفالوجا بمخيم جباليا، والذي دمره القصف العشوائي لجيش الاحتلال، ويؤكد أنه شاهد العديد من جثامين الشهداء في شوارع وأزقة المخيم، ومن بينهم عدد من جيرانه وأصدقائه.
يقول عبد العال لـ"العربي الجديد": "عشرات الأشخاص تحت الأنقاض من دون أي فرصة للنجاة، أو إمكانية انتشال جثامينهم بعد استشهادهم، وقد أصبحنا ضمن الآلاف الذين يعيشون من دون مأوى بعد أن دُمرت منازلنا أمام أعيننا. معظم سكان منطقتي خرجوا في اللحظات الأخيرة قبل القصف، وقد حملنا بعض أغراضنا معنا، حتى الأطفال الصغار جعلناهم يحملون أغراضاً خلال الهرب من القصف. لكننا لا نعرف إلى أين نتوجه".
يتعرض مخيم جباليا للقصف منذ الأيام الأولى من العدوان الإسرائيلي
يضيف: "أعرف عدداً كبيراً من المسنين الذين رفضوا مغادرة منازلهم في المخيم، ما اضطر بعض أبنائهم إلى البقاء أيضاً، وأثناء خروجنا، شاهد البعض تركز القصف على المناطق التي تضم منازلهم، وكان بعضهم يرغبون في العودة لكننا منعناهم من ذلك، لأنهم كانوا يذهبون إلى موت محقق. الاحتلال يتقدم في شوارع المخيم، ويواصل التدمير حتى يفقد السكان الأمل في العودة إلى المخيم مجدداً، لكن الغالبية سيعودون في أول فرصة. استشهد جدي عمار ووالدي عبد الله داخل المخيم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ودفنا في مقبرة الفالوجا، وكان ترك المخيم صعباً، لكننا قررنا المغادرة بعد أن تحملنا الجوع والعطش والأمراض والتدمير لفترة طويلة. الاحتلال يضعنا الآن أمام خيارين، إما الموت أو المغادرة، لذا نزحت مع والدتي وشقيقاتي".
ويضم مخيم جباليا تفرعات ومداخل ضيقة في الطرق والشوارع بسبب التمدد العمراني الكبير له منذ النكبة الفلسطينية، وقبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، كان يضم أكبر كثافة سكانية في بقعة جغرافية داخل قطاع غزة، بمتوسط يبلغ نحو 120 ألف نسمة، وغادر الآلاف من السكان المخيم الذي يتعرض للقصف الإسرائيلي المكثف منذ الأيام الأولى من العدوان، ما تسبب في تدمير نسبة كبيرة من مساكنه.
وتوجد سبع مدارس في وسط مخيم جباليا، تمتدّ من منطقة السوق حتى منطقة الفالوجا في الغرب، وتحولت تلك المدارس إلى مراكز إيواء منذ بداية العدوان، وكانت تضم نحو 20 ألف نازح من جميع بلدات وقرى المنطقة الشمالية من القطاع، وكذلك آلاف ممن دمّرت منازلهم في المخيم، وظلت تستقبل النازحين من المناطق الشرقية للمخيم التي أبادها الاحتلال تماماً.
وأجبر جيش الاحتلال النازحين إلى تلك المدارس على النزوح مجدداً إلى غربي مدينة غزة، وغادر كثيرون منهم تحت القصف. تقول إيمان أبو سنية (40 سنة) لـ"العربي الجديد" إن عدداً من النازحين دخلوا إلى شوارع المخيم الضيقة للاحتماء من طائرات الاستطلاع التي كانت تراقبهم، على أمل الوصول إلى الشوارع الرئيسية كي يفروا، لكن القصف لاحقهم.
عشرات الجثامين ملقاة في الشوارع وكثيرون قضوا تحت ركام منازل جباليا
تضيف: "شاهدت إعدام سيدة وزوجها ميدانياً عبر رصاص طائرات الاستطلاع على بعد مئات الأمتار فقط، ولم أستطع الاقتراب منهما، لأن هذا يعني استهدافي أيضاً. مع دخول الأسبوع الثاني من عملية الاحتلال على المخيم، أصبحنا نعيش حالة متفاقمة من الجوع داخل المدارس، وكثيرون من الرجال وضعوا عائلاتهم في المدارس، بينما كانوا يبيتون في منازلهم المتضررة أو المهدمة، وبعضهم استشهدوا بينما كانت نساؤهم وأطفالهم داخل المدرسة. كل هذا أجبرنا على النزوح، والبعض خرجوا حفاة تحت القصف".
تتابع أبو سنية: "الناس ينزحون من مكان إلى مكان للبحث عن مأوى، لكن القصف دمّر كثيراً من المربعات السكنية، وقامت الدبابات والآليات بالدخول إلى قلب المخيم، وداست على جثامين الشهداء، وقد شاهدنا هذا بأعيننا، فالكثير من الجثامين ملقاة على الأرض منذ أول أيام القصف، ولا تستطيع طواقم الإسعاف أو الدفاع المدني الوصول إليها، فمخيم جباليا يتعرض لعملية إبادة متكاملة".
وتتفاقم صعوبة الأوضاع الإنسانية مع خروج جميع مستشفيات شمالي قطاع غزة عن الخدمة بسبب القصف الإسرائيلي، وتوقف عدة مراكز صحية كانت تحاول تعويض غياب المستشفيات في المنطقة، مثل مركز جباليا الطبي.
ومع خروج جميع المراكز الصحية في قلب المخيم وعلى حدوده عن الخدمة بشكلٍ إجباري، أصبح الأهالي مضطرين لنقل المصابين عبر العربات الخاصة أو ما يتوفر من سيارات الإسعاف إلى المستشفى المعمداني التخصصي في منطقة غزة القديمة، أو المستشفى الأردني التخصصي، وهو مستشفى تديره الخدمات الطبية في الجيش الأردني.
فقد بشار حماد (27 سنة) الاتصال مع اثنين من أشقائه اللذين اتجها إلى منطقة شارع الهوجا لإنقاذ عائلة أصدقائهما التي وجهت نداء استغاثة من تحت الأنقاض، في ظل عدم تمكن طواقم الدفاع المدني من الذهاب إلى تلك المنطقة بسبب ركام الدمار في الشوارع، وانشغالها بالعمل في أحد المباني المدمرة، وقد سمع حماد الكثير عن استهداف تلك المنطقة لليوم الخامس على التوالي، وظل يرفض المغادرة قبل أن تصله أخبار عن شقيقيه، لكن أفراداً من عائلته أجبروه على النزوح معهم.
يقول حماد لـ"العربي الجديد": "في بداية العملية العسكرية، كان الاحتلال متمركزاً على الأطراف الشرقية، ولم يتمكن من التقدم إلى داخل المخيم بسبب صمود السكان. رغم أن الجميع يريدون الحفاظ على حياة ومستقبله أبنائهم، لكنهم اتفقوا على عدم المغادرة، والصمود لمنع الاحتلال من التقدم إلى قلب المخيم، لكن بعد أيام من القصف المكثف، أصبح القصف عشوائياً، وتسبب في استشهاد كثير من هؤلاء الصامدين في منازلهم، ما أجبر كثيرين على المغادرة، رغم أن فرصة النجاة كانت محدودة".
يضيف: "استخدم الاحتلال سياسة الأرض المحروقة، فأحرق المحال التجارية والمنازل القريبة من منطقة السوق، وبعضها كانت قبل العملية العسكرية تبيع البضائع للنازحين في المخيم، وقد فعل الاحتلال ذلك بشكلٍ متعمد حتى يقضي على صمودنا، وينهي محاولات العودة إلى المخيم عبر مخطط التجويع. استهدف الاحتلال أمام أعيننا العديد من النازحين، ومن بينهم مسنون ومرضى وأطفال ونساء، والمخيم حالياً مدمر بشكلٍ مرعب. كنا نستبعد أن يكون القصف بهذا الشكل، لكن الاحتلال لا يهمه أحد، لا المنظمات ولا الدول. كنا نترقب أن تنتهي الحرب، لكن القصف تجدد".
ويؤكد حماد أنه لا يعرف شيئاً عن مصير شقيقيه محمد وإبراهيم، اللذين كانا متطوعين لمساعدة فرق الدفاع المدني في إنقاذ الجرحى من تحت الأنقاض. يقول: "كانا حتى اللحظة الأخيرة من تواصلي معهما شجاعين، وهدفهما إنقاذ الناس، لكني حالياً لا أملك أي خبر عنهما، ولا حتى عن عائلة أصدقائهما التي ذهبا لإنقاذها. جيش الاحتلال يريد تدمير المخيم بالكامل، ومسحه من الذاكرة، لكننا لن نستسلم لذلك، وسنعود إلى المخيم، ونعيد بناءه".