بات تبذير الخبز أمراً بارزاً في الجزائر، إذ يتزايد إقبال العائلات الجزائرية على شرائه واستهلاكه بمختلف أصنافه، وتتوسّع صناعته في المخابز، وينتشر بيعه في المحلات الكبرى. ومع ارتفاع معدّلات الشراء بكميات كبيرة، يسهل رميه. فيكون مصير نصف ما يشتريه الجزائري من خبز في القمامة. ويُعَدّ الجزائريون من أكثر شعوب العالم استهلاكاً للخبز، علماً أنّ استهلاكه يزيد في شهر رمضان وفي فصل الصيف، عندما تكثر حفلات الزفاف.
وفي أحدث تقرير نشرته وزارة الداخلية حول تبذير الخبز في الفترة الممتدة من 13 إبريل/ نيسان الماضي حتى التاسع من مايو/ أيار الماضي، رمى الجزائريون خمسة ملايين قطعة خبز، أي ما يعادل 1.3 مليون كيلوغرام منه. وقد وصف تقرير وزارة الداخلية هذه الحصيلة بـ"الثقيلة والمؤسفة" إذ تشير إلى كميات معتبرة من الخبز المبذّر، تُقدَّر بنحو 45 طناً من الخبز في اليوم الواحد. وخلال الفترة المذكورة، احتلّت العاصمة الجزائرية المرتبة الأولى في تبذير الخبز، إذ جُمعت أكثر من 150 ألف قطعة خبز، ما يعادل 30 طناً من الخبز، من مكبات النفايات العمومية من مختلف الأحياء في هذه الفترة القصيرة. وقد عُدّت ولاية البليدة القريبة من العاصمة الجزائرية أكثر الولايات تبذيراً للخبز، إذ تشير الأرقام إلى تبذير أكثر من نصف مليون قطعة خبز خلال عشرين يوماً. وسُجّل في عدد من الولايات، خصوصاً في الجنوب، أقلّ تبذير للخبز. وطالبت الوزارة المواطنين والمواطنات باتباع قواعد الاستهلاك العقلاني وتجنّب أشكال التبذير المنبوذة، كذلك طالبت جميع الشركاء من ممثلي المجتمع المدني بمواصلة جهود التوعية إلى جانب السلطات المحلية.
ويكبّد تبذير الخبز الخزينة العامة للدولة أموالاً طائلة، تصل إلى 340 مليون دولار أميركي سنوياً، علماً أنّ الطحين من أكثر المواد التي تدعمها الحكومة الجزائرية، فهي تتكفّل بما يقارب 30 في المائة من سعر الخبز عبر دعم سعر الطحين. يُذكر أنّها تستورد القمح من الخارج، إذ لم تحقق حتى الآن اكتفاءها الذاتي من هذه المادة الحيوية. وقد بذلت السلطات جهوداً كبيرة لتوعية المستهلكين حول حرمة التبذير وآثاره على مقدرات المجتمع، عبر حملات إعلامية وأنشطة توعية من خلال المساجد والهيئات الدينية التي دخلت على خطّ توعية المواطنين، في وقت طالبت أطراف عدّة برفع سعر الخبز لإجبار الجزائريين على شراء ما يحتاجون إليه فقط، وبإنهاء دعم الدولة للطحين ما دام مستوى التبذير كبيراً.
يوضح خبراء أنّ التبذير مؤشّر من مؤشرات عشوائية الاستهلاك من جهة، وغياب ثقافة ترشيد النفقات اليومية من جهة أخرى، خصوصاً في مواسم معيّنة يكثر فيها استهلاك الخبز. وفي هذا الإطار، توضح الباحثة في علم الاجتماع وسيلة بودهان لـ"العربي الجديد" أنّ "هذه الظاهرة مرتبطة بالسلوك الاستهلاكي للمواطن الجزائري. فكثيرون هم الجزائريون الذين يقدمون على شراء كميات من الخبز تفوق حاجتهم، ما يؤدّي بالفائض منه إلى القمامة. ولذلك ظروف منها أنّ تغيّراً كبيراً حصل في تركيبة المجتمع الجزائري، عندما تمدّن الريف بعض الشيء، فلم تعد العائلات فيه تنتج خبزها منزلياً. فهذه العائلات كانت تضبط احتياجاتها من الخبز، ثمّ باتت هي الأخرى تستهلك الخبز المنتج في المخابز. ومع العرض المتنوّع في المخابز وسعر الخبز الزهيد في الجزائر مقارنة بدول أخرى كثيرة، فإنّ الجزائري يطلب كميات من الخبز أكبر من حجم استهلاكه".
تضيف بودهان أنّ "ثمّة متغيّرات أخرى تتعلّق بنموّ طفيف وتحسّن في ظروف الجزائريين المعيشية، مقارنة بسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهذا ما جعل الجزائري يغيّر عاداته الاستهلاكية، خصوصاً أنّ العائلات الجزائرية لم تكن تعمد إلى رمي الخبز اليابس في العقود السابقة بل كانت تعيد تحويله لتستخدمه في وجبات غذائية لها أو لبعض الحيوانات مثل الدجاج".
من جهته، يقول الإمام محمد فريحة لـ"العربي الجديد": "من المؤسف رؤية كميات من الخبز في القمامة وعلى الطرقات، علماً أنّ الجزائريين يحترمون الخبز في الغالب. فعندما يجد جزائري قطعة خبز مرمية، يحملها ويقبّلها بشفتَيه ويضعها على جبينه، في عادة متوارثة تظهر احترام النعمة. لكنّ ذلك بدأ يقلّ لأنّنا لم نعد ندرك قيمة هذه النعمة". يضيف فريحة أنّه "يتوجّب على الجزائريين أن يتوقفوا عن هذا التبذير عند مشاهدتهم الفقر الحاصل في دول كثيرة لا يجد مواطنوها ما يأكلونه، بينما يرمي الجزائريون ملايين قطع الخبز شهرياً، هذا أمر مؤسف".
وبخلاف ما يحدث في الوقت الحالي من رمي الخبز في مكبات النفايات، فإنّ العائلات الجزائرية كانت تتعامل مع الخبز بطريقة مختلفة في الماضي. فبعدما يصير يابساً، كانت تستفيد منه من خلال تحويله إلى أطباق تقليدية من قبيل "العصيدة" و"شخشوخة الخبز". فيُقطّع الخبز اليابس ويُطبخ في الماء مع الملح والزيت وبإضافة قليل من البهارات التي من شأنها أن تمنحه نكهة خاصة. فالظروف المعيشية التي كانت تعرفها العائلات الجزائرية في السابق، لم تكن تسمح لها برمي الخبز، وإذا فعلت ذلك ففي حالات نادرة.
تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة جزائريين يبحثون في الوقت الحالي عن الخبز اليابس، ويجمعونه من البيوت أو من مكبات النفايات، إذ إنّ ذلك وسيلة لهم للحصول على مردود مالي يوفّر قوتهم اليومي من خلال بيعه لمربّي المواشي الذين يحوّلونه بدورهم إلى علف لها. وفي المدن الكبرى خصوصاً، في الإمكان ملاحظة شباب وأطفال وهم يتنقلون من بيت إلى آخر طلباً للخبز اليابس. وبعضهم صارت تربطه علاقة ودية مع عائلات بحدّ ذاتها تجمع لهم ما بقي من خبزها في أكياس، في انتظار مرورهم لاستلامها. وهؤلاء يبيعون ما جمعوه من خبز يابس في مقابل 20 ديناراً جزائرياً (0.15 دولار أميركي) للكيلوغرام الواحد، وهو ما يدرّ عليهم قليلاً من المال يومياً.