بين الراعي والفلّاح

27 ديسمبر 2021
جفاف في النيجر (بوريما هاما/ فرانس برس)
+ الخط -

قطبا الحياة الأولى في كل مكان في العالم حتى وقت قريب كانا الراعي والفلّاح، بل هما سببا الحياة وقوامها. يتقاسمان عطاء الطبيعة على الرغم مما يعتري علاقتهما من نفور أزلي متبادل، وصراعات ونزاعات تتفاقم حين يحل القحط.
حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، كانت بدايات الخريف تعني أن نتأهب لمراقبة كبار قريتنا يعدون العدة للرحيل إلى الوديان البعيدة عن مجرى النهر، يزرعون البلدات، أو كما يسمونها "الحجارة"، في إشارة إلى الحدود الطبيعية لتلك المساحات المحدّدة، والمتعارف على أيلولتها للأسر الكبيرة. وكانت لهم استراتيجياتهم في التعامل مع سكان تلك الأودية من البدو دائمي الحركة كالنجوم التي يؤمنون بها وهم يجوبون الصحراء.
نجح الروائي السعودي عبد الرحمن منيف حين جمع صراع البقاء، والجوع والقحط، والانتماء، والبر والصحراء، القرية والجفاف والمطر، والحكمة والصبر في روايته "النهايات" عام 1986، والتي تنبأ فيها بالجفاف (القحط) الذي حل ببلادنا بسبب التغيرات المناخية المتواترة. وذكر أنه "في مواسم القحط تتغيّر الحياة والأشياء، وحتى البشر يتغيرون، وتتغيّر طباعهم".
حين يتوالى القحط تشتد النزاعات، ويسيطر الخوف على قطبي الحياة. فالراعي البدوي، بعدما كان سيد الصحراء، يتصالح مع الرمل الغليل الذي افترس قوته في تلك البادية الجديبة، والسماء التي امتصت دمه، يظل البدوي يتحرك بمواشيه بين المراعي. ورغم أن هناك علاقات مصالح مشتركة تربط بينه وبين الفلاح، إلا أن نفور كل منهما من الآخر يظل ثابتاً لا يتبدّل. وما كان تماسهما قبلاَ أجدى من تماس رمزيهما (الرمل والماء)، أي النيل والصحراء، كما ذكر صاحب "النيل: حياة نهر" للكاتب الألماني السويسري إميل لودفيغ.
كما ينشد الفلاحون المطر، ويخافون إنحباسه في الأشهر الأولى من مواسم هطوله، فإنهم يخافونه إن جاء باكراً، ونما الزرع، ثم عاود الهطول، فحينها تغرق مزروعاتهم وتنمو الأعشاب الطفيلية ويفسد الموسم بكامله. كما أنهم يخافون شدة الحر واحتراق المحاصيل في الحقول في شهر مايو/ أيار من كل عام. كما يتملك الخوف الرعاة إن شح المطر، وتيبست الأودية، وانعدم الكلأ. وقد يتغشى الواحد منهم بمواشيه المزارع فتنشب الصراعات، ويتعود الفلاحون حمل السلاح جنباً إلى جنب أدوات الحصاد.

موقف
التحديثات الحية

مع التغيرات المناخية الأخيرة ما عاد كبار قريتنا يهتمون بزراعة الأودية البعيدة نبسبب انعدام المطر، كما استقرت أعداد كبيرة من الرحّل حول القرى قريباً من مصادر المياه الثابتة، فيما انتقلت أعداد أخرى إلى مناطق بعيدة ما زالت بيئتها قادرة على العطاء، وهنا وهناك انقلبت الحياة، وباتت الصراعات والاقتتال وانعدام الأمن سمة تتغلب على سواها من السمات للعلاقة بين قطبي الحياة. في مؤتمر المناخ الأخير تحذيرات من إهدار الفرص والكثير من الوعود. فهل يجدي الأمر؟
(متخصص في شؤون البيئة)

المساهمون