بسطات رام الله والبيرة... ملجأ محدودي الدخل الفلسطينيين

12 يوليو 2021
تبيع الزيتون والتين (العربي الجديد)
+ الخط -

قُبيل الفجر، يكسر صوت خطوات أم جلال وخشخشة أكياسها ركود سوق وسط مدينة رام الله، وسط الضفة الغربية، في فلسطين المحتلة. تُثبّت بعض صناديق البلاستيك والورق المقوى، ليبدأ يومها الطويل والمستمر على بسطتها منذ أكثر من عشرين عاماً بعبارة "يا رب الرزق عليك". تبذل أم جلال (64 عاماً) جهداً كبيراً للبيع ولمواجهة الأيام الصعبة. تواظب على العمل خلال عطلة نهاية الأسبوع، علماً أنّ منتجاتها التي تعرضها على البسطة تتواءم مع فصول السنة. تبيع الفقوس (مقتي) والعنب خلال الصيف، قبل أن تنتقل إلى المزروعات الشتوية. وعلى الرغم من يومها الطويل، تُعدّ المخللات لدى عودتها إلى المنزل لتبيعها.
يلجأ مئات الفلسطينيين في مختلف محافظات الضفة الغربية إلى الطرقات والأرصفة حيث يضعون بسطاتهم طلباً للرزق. وتتنوع المنتجات، وإن غلبت عليها تلك الزراعية، تليها الألعاب والأدوات المنزلية، وحاجيات الاستهلاك السريع كالمناديل الورقية والكمامات، وبعض الملابس كالجوارب وغيرها. وبدأ البعض بالبيع على البسطات مؤخّراً هرباً من بؤس مهنٍ وحرف أُخرى ليست أحسن حالاً من جلوسهم الطويل أمام البسطات، فيما أمضى آخرون نحو نصف أعمارهم خلف طاولة خشبية، وقد حفظوا ملامح الناس والزبائن، وما زالوا يواجهون معترك الحياة في مكان غير ثابت. وغالباً ما يتنقّل أصحاب البسطات من مكان إلى آخر في المربع نفسه وسط السوق للفت انتباه الزبون وزيادة فرص الشراء، خصوصاً في الشوارع الرئيسية والمكتظة.
لا تكاد أم جلال - التي تتمتع بشعبية كبيرة في السوق وبين الناس، هي التي كانت قد اشتهرت على وسائل الإعلام والتواصل بسيجارتها - تطفئ سيجارة حتى تشعل أخرى. تقول لـ "العربي الجديد": "المسؤوليات في حياتي كبيرة وكثيرة وأتحملها وحدي. اعتدتُ العمل. آتي إلى هنا عند السادسة صباحاً. وحين يُغلق جيراني المحل التجاري المقابل، ألملم حاجياتي وأودعها لديهم، ليصل عدد ساعات عملي إلى 16 ساعة يومياً". تضيف: "والجِمعة أعمل أيضاً". ثم تضحك مبدية تفاؤلاً بالغد، لتقول: "الحمد لله".

حاجة إلى الدعم
ملّت فدوى محمد (55 عاماً) ضعف الإقبال على شراء منتجات التطريز التراثية التي تصنعها في منزلها منذ سنوات عدة، فاختارت الجلوس عند سور منخفض يقصده المارة وسط مدينة البيرة الملاصقة لرام الله (تشكل المدينتان محافظة واحدة) لتعرض بضاعتها، وقد زاد عدد الزبائن "لكن ليس كما يجب". تقول لـ "العربي الجديد": "أعتقد أنّ الدعم المالي المباشر لأصحاب البسطات هو أفضل الحلول التي يجب تقديمها عبر البلديات مثلاً أو مؤسسات داعمة أُخرى". يقاطع حديث فدوى التي يبدو التعب واضحاً على وجهها مارة يستفسرون عن أسعار ما تبيعه. فإما يتابعون طريقهم، أو يساومونها للحصول على سعر يناسبهم، في إشارة واضحة لامتعاض الزبائن من الأسعار، خصوصاً أنّهم يتوقعون أن يكون أقل كونه يباع من خلال بسطة. 

تعتمد على بسطتها لتأمين الرزق (Getty)
تعتمد على بسطتها لتأمين الرزق (Getty)

بفضل بيع الفاكهة والخضر على إحدى البسطات، يواصل الشاب أنس العمري دراسة التجارة في الجامعة (سنة ثانية). والده سياد العمري (52 عاماً) يبيع الفاكهة والخضر على بسطة في حسبة مدينة البيرة منذ 35 عاماً، يدخر المال من عمله لابنته ماجدة التي ستنهي الثانوية العامة وتلتحق بالجامعة بعد أشهر قليلة. يقول لـ "العربي الجديد": "بفضل عملي، يواصل دراسته في الجامعة، وستلتحق به شقيقته بعد أشهر. وعلى الرغم من تعبي في الوقوف أمام البسطة سنوات طويلة ومعاناتي من ألم في القدمين، عدا عن أمزجة الزبائن الصعبة أحياناً وغياب خدمات البلدية، أقله عدم توفير مظلة ودورات مياه ومصلى، فأنا مرتاح لأنّني أجني رزقي من عرق جبيني".

أين البلديات؟
يقول القائم بأعمال قسم التنفيذ في بلدية البيرة أشرف صايل، لـ "العربي الجديد": "يتسع سوق الحسبة وسط مدينة البيرة لأكثر من 130 بسطة، وتتقاضى البلدية مبلغاً رمزياً كأجرة يومية لقاء تقديم بعض الخدمات كتنظيف السوق، وتوفير الإنارة. وخصصت هذا السوق لأصحاب البسطات. إلّا أنّ البعض يصرّ على تأجير بسطات أخرى على الشارع الرئيسي قرب ميدان المنارة وسط المدينتين التوأمين رام الله والبيرة، الأمر الذي يشكل اعتداءً على الأرصفة والطرقات التي تعيق حركة المارة، عدا عن ترك أصحاب البسطات مخلفات بضاعتهم، وخصوصاً الغذائية والزراعية، ليقع على كاهل 20 موظفاً في البلدية إزالتها يومياً علماً أنّ كمياتها كبيرة. كما يمنع وضع البسطات خارج مربع سوق الحسبة، بدءاً من الساعة الثامنة صباحاً وحتى التاسعة مساءً".

طلاب وشباب
التحديثات الحية

ومنعت بلدية رام الله إقامة البسطات على الأرصفة والطرقات، باستثناء البسطات الموسمية خصوصاً الزراعية، التي تحصل على ترخيص من البلدية للبيع، حرصاً على حق المارة في الطريق والأرصفة، وفق ما توضح مديرة دائرة العلاقات العامة والإعلام في بلدية رام الله، مرام طوطح، في حديث لـ "العربي الجديد". تقول طوطح إنّ "بعض البسطات القديمة التي يبيع أصحابها عليها الكعك والذرة والصحف تحصل أيضاً على استثناء التشغيل؛ كونها تعمل بالأصل في أماكنها منذ عشرات السنوات، وتحاول البلدية دعم بعض الحالات الإنسانية التي تحتاج إلى رخصة تشغيل للبسطة، مع حفظ تنظيم هذه البسطات وتحويلها إلى أسواق موسمية بالتعاون مع مؤسسات وجمعيات أُخرى".
وتعتمد بلديتا رام الله والبيرة خططاً تشجيعية لأصحاب البسطات الزراعية والتراثية، من خلال تخصيص أسواق أسبوعية، إذ إنّ بلدية البيرة تخصص للفلاحين والمزارعين من مختلف قرى المحافظة أيام السبت من كلّ أسبوع في ساحة المركز الثقافي وسط المدينة لبيع منتجاتهم، كما تخصص بلدية رام الله "سوق الحرجة" لأصحاب البسطات والمزراعين والمشاريع الصغيرة أيام الجمعة من كلّ أسبوع أمام بلدية رام الله في بلدتها القديمة المعروفة برام الله التحتا.

عمله هذا يعيل أسرته (دومينيكا زارزيكا/ Getty)
عمله هذا يعيل أسرته (دومينيكا زارزيكا/ Getty)

كسر احتكار المحال التجارية
يتوجه غالبية الميسورين من الناس لشراء ما يحتاجونه من المحال التجارية، بينما يقصد البسطات من تشبه حالهم حال الباعة خلفها. ويحاول بعض الشباب في مقتبل العمر كسر المعادلة لصالحهم؛ فكما يتبع التاجر في منشأته الكبيرة بعض الحيل والخطط التسويقية للبيع، يبدو أنّ أصحاب البسطات من الشباب يحاولون اعتماد الحيل نفسها. قرر الشابان جهاد وموسى المربوع افتتاح بسطة أكسسورات للأطفال وألعاب بسعرٍ رخيص وسط مدينة البيرة، باعتبار أنّ الناس ملوا من المحال التجارية وارتفاع الأسعار. ويقول موسى لـ "العربي الجديد": "يجب أن نقوّي السوق الشعبي من خلال عدم زيادة الأسعار. نحن أصحاب البسطات نشعر بأحوال الناس وهم يشعرون بنا. فالناس إما أغنياء أو فقراء وقد انعدمت الطبقة الوسطى". يضيف: "ما يميز البسطة هو القدرة على بيع أكثر من منتج مُختلف". يتابع: "عندما نلاحظ أنّ ثمة محالاً تبيع منتجات ما بسعر أعلى، أجلبها وأبيعها بسعر أقل. وفي المواسم، كالعام الدراسي، نبيع لوازم المدارس والقرطاسية بأسعار منخفضة".

قضايا وناس
التحديثات الحية

يجاهد المسن عيسى سمارة الذي شارف على السبعين عاماً من أجل تأمين لقمة عيشه. وبعدما اختلف مع المطعم حيث كان يعمل، اختار مساحة مترين مربعين، قرب سوق الحسبة الكبير، وسط سوق مدينة البيرة، لبيع ألعاب صغيرة للأطفال. يقول لـ"العربي الجديد": "كنّا أفضل حالاً قبل تفشي فيروس كورونا وقد اعتدت بيع كميات أكبر خلال اليوم. أما في الفترة الحالية، فلا أكاد أبيع بثمن البضاعة التي أشتريها. الوضع سيئ، وما حصل مؤخراً في قطاع غزة وأحداث القدس والضفة الغربية كلها أثرت على الحركة في السوق والإقبال على البسطات". مع ذلك، يرفض سمارة الجلوس في المنزل بهدف الراحة بعد سنوات طويلة من العمل. ولأنّ أبناءه يعملون وبالتالي هم قادرون على إعالته، يُتوَقع منه التمسك بالبقاء في المنزل. لكنّ سمارة يقول لـ"العربي الجديد": "لا أحب الجلوس في المنزل وسأبقى أعمل. عاش والدي خمسة وتسعين عاماً وظلّ يعمل. أنا هنا من أجل التسلية لا العمل فقط، ومن أجل استثمار وقت الفراغ".

بسطة بالوراثة
يبدو الفتيان محمد وجعفر عايش الآتيان من ريف القدس الزراعي، سعيدين لأنّهما يعملان على بسطة ثانية للعائلة. بالنسبة لهما، فإنّ العمل هو تسلية خلال الإجازة المدرسية في الصيف. يقولان لـ "العربي الجديد": "نستيقظ منذ الصباح الباكر لقطف الفقوس من أرضنا الزراعية، ثم نبيعها وسط مدينة البيرة. ونحن سعيدان لأنّنا نعمل ونتقاضى المال ونساعد عائلتنا التي تقدم لنا أجراً مقابل العمل". ينزعجان من ضعف الشراء، ويحاولان التغلب على ساعات العمل الطويلة من خلال تبادل أطراف الحديث والتسلية أحياناً عبر الهواتف المحمولة، ثم يبتسمان عندما يأتي زبون، ويتذكران نصائح أخويهما اللذين يعملان على بسطة أخرى في السوق، بضرورة التعامل مع الزبون بهدوء والنداء على البيع بلطف. ويفخر الصبيان بعمل جدهما في بيع المنتجات الزراعية في القدس ورام الله، ويبدو أنّهما ورثا منه حيلة كسب الزبون وإن على بسطة.

المساهمون