يرفع الانهيار الاقتصادي والتخبّط السياسي في لبنان مستويات القلق والتوتر والشعور بانعدام الأمان النفسي والاجتماعي. وتتعزز هذه المشاعر بتصاعد وتيرة الأحداث الأمنية في شكل ملحوظٍ منذ العام 2020، عبر جرائم قتل وعمليات سرقة. أرقام ومؤشرات انعكست على الصحة النفسية للمواطنين والمقيمين، الذين يعانون أيضاً من أعباء جائحة كورونا وتداعياتها.
يؤكّد الباحث في شركة "الدولية للمعلومات" للدراسات والبحوث والإحصاءات، محمد شمس الدين، لـ"العربي الجديد" أنّ "تزايد حالات السرقة والقتل التي نشهدها اليوم مرتبط بالأزمة الاقتصادية والمالية وارتفاع نسبة الفقر والبطالة، وتفاقم التأثيرات النفسية السلبية وتفكّك المجتمع والدولة. وتتحدث الأرقام عن حوالي 480 ألف عاطل عن العمل، و200 ألف يعملون بنصف أو ربع راتب، فيما القدرة الشرائية تدهورت مع ارتفاع الأسعار بنسبة 183 في المائة خلال سنة، أما نسبة الفقر فتناهز 55 في المائة".
يوضح شمس الدين أنّ إحصاءات شركة "الدولية للمعلومات" تستند إلى أرقام وتقارير توفرها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. ويشير إلى أنّ إجمالي عدد السرقات ارتفع بنسبة 57.4 في المائة من 1610 إلى 2534 خلال عامي 2019 و2020، في حين بلغ عددها 198 في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 فقط، في مقابل 125 خلال الشهر نفسه عام 2019. أما عدد جرائم القتل فارتفع بنسبة 91 في المائة من 109 إلى 208 في 2020. ويعلّق: "الأكيد أنّه كلما زاد الانهيار زاد التفكك وارتفع عدد جرائم القتل والسرقة. وفي الأشهر الأربعة الأولى من عام 2021 زاد عدد سرقات السيارات من 230
إلى 347 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020، أي بارتفاع نسبته 51 في المائة. أما إجمالي عدد السرقات فارتفع من 704 إلى 2006، أي بنسبة 185 في المائة. في المقابل، كان لافتاً تراجع معدلات القتل بنسبة 16 في المائة من 68 إلى 57، وحالات الانتحار بنسبة 16.7 في المائة من 48 إلى 40".
الأمان... استثمار ضائع
في السياق، تؤكد الطبيبة المتخصّصة في علم النفس، لوزان خيرو، أنّ "ما يعيشه اللبنانيون استثنائي وصعب، سواء على صعيد عدم الاستقرار السياسي أو الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار والغلاء المعيشي أو الضغوط التي خلفتها جائحة كورونا، وآثار الخوف التي تركتها في الصحة النفسية لكثيرين. كلّ هذه العوامل تتسبب في حالات نفسية غير مستقرة وانعدام التطور النفسي، ما يدفع البعض إلى ارتكاب جرائم قتل وسرقة، أحياناً من أجل إطعام أولادهم أو الحصول على مال مطلوب لتيسير أمورهم وتأمين احتياجاتهم".
وتستثني خيرو الحالات المرضية لأولئك الذين يقتلون أو يسرقون لـ"التلذذ فقط، أو الذين يرتكبون جرائم شرف تتعلق بمعتقدات وعادات خاطئة" لكنّها تستدرك أنّ "الحجر الصحي تسبب أيضاً في حالاتٍ نفسية غير مستقرة. فالأفراد الذين أوقفوا نشاطاتهم السابقة مثل السهر أو السياحة والسفر أو التجارة أو الحياة الاجتماعية أو النوادي الرياضية، والتي كانت تشكّل متنفساً حيوياً لهم، باتوا يعيشون اليوم في قلق شديد وخوف من التعرض لمرض أو الموت، خصوصاً في ظلّ عدم وضوح الحقائق العلمية الخاصة بفيروس كورونا".
وتلفت إلى أنّ "نتائج هذه الحالات النفسية غير المستقرة قد تظهر في زيادة نسبة الطلاق التي تطاول خصوصاً نساء معنّفات، وتفاقم المشكلات والخلافات، وارتفاع معدل القتل والجرائم. أما انعكاس ذلك على المجتمع فيتمثل في ظهور أعراض القلق والتوتر والخوف الدائم، والخيبة لدى اللبنانيين الذين يعتقدون بأنهم استثمروا بلا جدوى في وطنهم وحاولوا الصمود فيه، لكنّهم لم يحصلوا في نهاية المطاف على أدنى حقوقهم والمتمثلة في الشعور بالأمان".
وتشير إلى أنّ "مستوى القلق يختلف من شخصٍ إلى آخر، فإذا قتل قريب لنا أو شخص نعرفه، على سبيل المثال، يكون مستوى القلق أعلى من مجرّد سماع جريمة قتل عبر شاشات التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي. وقد يكون قلقاً نتعايش معه، أو قلقاً يتفاقم ويؤدي إلى اضطراباتٍ في النوم والأكل ويتسبّب في عزلة وانطواء، وأحياناً كوابيس وانعدام القدرة على العمل وإنجاز النشاطات اليومية الأساسية، ما يزيل أي اهتمام أو دافع لممارسة أي نشاط، ويحتم الانكفاء عن السهر وزيارة الأقارب والأصدقاء، أو عن تناول طعام صحي وممارسة الرياضة".
"واجب" الدولة
تذكّر خيرو بأنّ "الطفل يحتاج أولاً إلى الأمان الذي يوفر ركيزة تمتعه بصحة نفسية سليمة، علماً أنه ينشد هذا العنصر دائماً في حياته اليومية من خلال التأكد من وجود أهله إلى جانبه. أما حين يكبر ويخرج من النطاق العائلي الضيق فيصبح توفير الأمان من مسؤولية الدولة وواجبها".
وعن تأثير القلق على الأطفال، توضح أنّهم "يتعمدون تقليد الكبار عادة، لذا سيتبنى ابن شخص قاتل أو سارق صورة أبيه، ويصبح عنيفاً مثله لاعتقاده بأنه يستطيع حل مشاكله بهذه الطريقة، علماً أن هناك خطراً كبيراً اليوم من قضاء الأطفال معظم أوقاتهم في ممارسة ألعاب إلكترونية عنيفة. أمّا إذا أخذ ابن شخص مقتول دور الضحية فسيلعب الدور نفسه أو قد تزداد مخاوفه، وسيمثّل الآخر بالنسبة إليه خطراً محدقاً دائماً، ما يؤدي إلى رد فعل عدائي لحماية نفسه من غدر الجميع كما يعتقد. ولا يستبعد حتى أن يفكر بالقتل بدلاً من أن يُقتل".
أما عن انعكاس القلق على الكبار، فتشير خيرو إلى أنّ "مستوياته العالية تؤثّر سلباً على قدرات التحليل والتفكير المنطقي الواقعي، ما يعزّز التهور والسلوك المبني على مشاعر عاطفية. ومع ارتفاع حدّة القلق والمشكلات والحالات النفسية، يصبح الفرد أمام ثلاثة خيارات، أولها أن يصبح انطوائياً يعيش في عزلة تامة خوفاً من مواجهة أي خطر وأي إنسان آخر، للتمسك بغريزة الحياة، والثاني أن يفقد حسّ الانتماء للبلد نتيجة خيبته فيحزم حقائبه ويهاجر، وهذا يحصل كثيراً للأسف. أما الخيار الثالث فاللجوء لحماية شخصية عبر تركيب أجهزة إنذار وكاميرا لمراقبة منزله، وربما إلى حمل سلاح للشعور بأمان، وكأنّ شريعة الغاب هي السائدة".
ارتفاع سرقة السيارات
خلال الأشهر الـ11 الأولى من عام 2020، زادت حوادث سرقة السيارات بنسبة 117.7 في المائة مقارنة بعام 2019، وصولاً إلى 934 في مقابل 429 خلال الفترة ذاتها من عام 2019. وبلغت سرقات السيارات ذروتها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 مقارنة بباقي أشهر السنة، إذ شهد 152 سرقة، بمعدل 5 سيارات يومياً، علماً أن 78 سيارة سرقت خلال الشهر ذاته من عام 2019.