مع ارتفاع نسبة البطالة في تونس، منذ سنوات، والتهميش الحاصل في بعض المناطق، ما يساهم أيضاً بتضاؤل فرص الحصول على عمل، بادر عدد من الشباب إلى ابتكار مشاريع صغيرة وإدارتها ضمن إمكاناتهم
في قرى تونسية منسيّة، تفتقر للتنمية، تعيش نسبة كبيرة من الشباب على الهامش. قد يفضّل البعض منهم الاستسلام للظروف، وانتظار وظائف قد لا تأتي. لكن، هناك من بينهم من انتفض على البطالة وصنع من الضعف قوة، ومن العجز ابتكاراً، بإمكانات بسيطة، وأحياناً من دون أن يملك أيّ موارد، فتمكّن من إطلاق مشاريع صغيرة.
فاروق العيشاوي (28 عاماً)، حاصل على شهادة الهندسة المدنية، وينحدر من محافظة القصرين وسط غربي تونس. بعد سنوات من البطالة، رفض الاستسلام لواقعه، خصوصاً في ظلّ غياب أيّ فرص للتوظيف العام أو الخاص في منطقته المنسية. وعوض انتظار وظيفة تبدو مستحيلة، قرّر هذا الشاب استغلال العجلات المطاطية لصنع الأثاث. بل أكثر من ذلك، يوظف العيشاوي عدداً من نساء منطقته في مشروعه، وقد أدخل إليه حرفاً تقليدية أيضاً. يؤكد العيشاوي لـ"العربي الجديد" أنّ العجلات المطاطية عادةً يستغلّها الشباب في الاحتجاجات وإغلاق الطرقات، وهناك كميات كبيرة منها تُرمى في الطبيعة وتُلوّث الهواء عند إحراقها، في حين أنّه يمكن استغلالها في ابتكار العديد من المنتجات.
انطلقت الفكرة عام 2014، عندما لاحظ عدم استغلال العجلات المطاطية ونفايات أخرى. ويؤكّد أنّه عمل على تغيير نظرة الناس إلى المواد التي تُلقى ولا تُستغل كالعجلات المطاطية والألواح والمعادن. ويشير إلى أنّ هذا المجال لا يحتاج إلى تأهيل معيّن، ولهذا يسعى إلى تدريب نفسه بنفسه، عبر العمل على قَصّ العجلات وتحويلها إلى نماذج يبتكرها، محاولاً، في كلّ مرة، إضافة أشياء جديدة ومواد تقليدية كنبتة الحلفاء، والمرقوم (نسيج من الصوف) وحتى منتجات وزخرفات قلّ الإقبال عليها. ويلفت العيشاوي إلى أنّ مشروعه لم يقتصر على ابتكار منتجات وأثاث، بل سعى إلى تشغيل عدد من نساء منطقته، خصوصاً أنّ جهته تزخر بالعديد من الحرف التقليدية، فهنّ ينسجن ويخطن منتجات يطلبها منهنّ، وهكذا يحققن دخلاً وهنّ في بيوتهنّ، لافتاً إلى أنّه استعان ببعض الشباب لمساعدته لتلبية الطلبيات وجمع العجلات المطاطية.
ويؤكّد أنّه اتفق مع عددٍ من الورشات التي تزوّده بالعجلات والتي كانت سابقاً تُلقى في الطبيعة، وذلك مقابل أسعار رمزية. يوجه الشاب الطموح رسالة إلى الشباب التونسيين، "ممن يتذمّرون من غياب الآفاق" داعياً إلى المبادرة، والعمل في أيّ مجال كان، إذ يُمكن للإنسان أن يُبدع بدلاً من الانتظار. ويشير إلى أنهّ الآن يتمكّن من مساعدة عائلته، وفي الوقت نفسه، يساهم بطريقة غير مباشرة في المحافظة على البيئة.
وفي قرية أخرى منسيّة، وهي هنشيِر الطباقة، في تستور، شمالي تونس، يحول محمد الجويني، منطقته إلى قبلة للزائرين، وهو الذي كان يعمل بصفة تطوعية كدليلٍ سياحيّ مختصّ في المجال البيئي في مشروعٍ ترفيهيّ. يقول إنّه خبير في المجال السياحي ويحبّ العمل فيه، لافتاً إلى أنّ "الفكرة انطلقت عندما لاحظت أنّ زائري المنطقة لا يجدون مساحات ترفيهية وأماكن لتناول الفطور. فهناك مساحات طبيعية هامّة، لكن تنقصها عناصر عدة ليستفيد الزائر منها، ويقضي يومه". ويشير إلى أنّ "الحاجة هي أمّ الاختراع، فطالما أنّ هناك إقبالاً، بالإضافة إلى الطبيعة والجبال الجميلة، قررت توظيف كلّ ذلك، ضمن مشروعٍ متكامل في المنطقة".
ويروي الجويني أنّه انطلق في مشروعه عام 2016، وكانت البداية بإنشاء الأرجوحة المعلّقة، والتي تربط بين جبلٍ وجبل. وهي بادرة لا تخلو من المغامرة. وتولّى تخصيص مساحات خاصّة، ضمن المشروع، يعرض فيها بعض السكان منتجاتهم التقليدية. ويؤكّد أنّ "هذه المبادرة، ولكي تنجح، لا بدّ من أن يستفيد منها السكان المجاورون ويصبحوا جزءاً من المشروع. فهناك شباب يرافقون الزائرين، ونسوة يعملن على عرض ابتكاراتهن، وبالتالي يشاركن في الدورة الاقتصادية ويعرضن منتجات يجري إعدادها في البيت كالبهارات، والكسكسي، والملوخية، والأجبان التي تعرف بها المنطقة، ومنتجات تقليدية كالزرابي والبرنص، والملابس، والتحف الطينية إلى جانب تقطير ماء الزهر وبيع عشبتي إكليل الجبل والصعتر".
يضيف أنّهم بصدد توسيع المبادرة، إذ ستخصص مساحات للنساء العاملات، بحسب اختصاص كلّ واحدة منهنّ. وبإمكان الزائر المشاركة في الورشات، فيطبخ معهن، أو يساهم في إعداد بعض المنتجات التقليدية. وقريباً، سيخصَص مكانا لتربية النحل، ويمكن للزائر المشاركة في استخراج العسل وهكذا يعيش تجربة ريفية خاصة. يقول الجويني إنّ أغلب الزائرين هم من التونسيين من مختلف المحافظات، وبالتالي، يتمّ فكّ عزلة المنطقة التي لم تكن معروفة. كذلك، هناك مشاهير ودبلوماسيون ومجموعات يأتون خصيصاً لهذا المكان للاستجمام، مشيراً إلى أنّهم يركزون دائماً في خدماتهم على استقطاب الوافدين "فالزائر الذي يأتي مرّة يعود لزيارة هذا المكان مجدداً".
شكري السلطاني، شاب تونسي من الأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، في عين دراهم، بالشمال الغربي، تمكن من كسر حاجز البطالة، ومعه حاجز عدم تجهيز البيئة والسوق للأشخاص ذوي الإعاقة، وصنع ألعاباً للأطفال من الخشب، من تصميمه الخاص، ما جعل منتجاته تتميز عن المنتجات الخشبية التي تشتهر بها منطقته. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه بدأ في صنع تحفٍ عاديّة وبالرسم على الزجاج، ثم ساعدته جمعية في التخصص في نحت الخشب. ونظراً لموهبته وبحثه عن التميّز، اختار ابتكار ألعاب من الخشب، ما أدخل الفرحة إلى قلوب الأطفال خصوصاً أنّ الألعاب من التحف الخشبية نادرة. ويوضح أنّه يحاول في كلّ مرة ابتكار نموذجٍ جديد. ويلفت إلى أنّه عانى من البطالة، خصوصاُ أنّه ينحدر من منطقة لا آفاق فيها، وبالتالي، كان أمام خيارين، إما أن يكتفي بالمساعدات البسيطة وعطف الناس عليه، وهو ما لا يحبذه، أو يعوّل على نفسه ويبادر بإنجاح مشروع يتميز به عن غيره.
ويشير إلى أنّه منذ ذلك الوقت، تمكّن من مساعدة والديه بدلاً من أن يكون عالة عليهما. ويطالب الشباب التونسيين بترك المقاهي والاعتماد على أنفسهم، فهناك العديد من الجمعيات التي يمكن أن تمدّ لهم يد المساعدة، وبالإمكان المبادرة إلى الابتكار في أي مجالٍ كان، وإن بموارد طبيعية كالخشب أو الطين. ولا ينفي السلطاني الصعوبات، خصوصاً عندما يكون الطقس شديد البرودة. وتُعرف عين دراهم، بهطول الثلوج وقساوة المناخ، وأمام غياب وسائل النقل المجهزة لإعاقته، كثيراً ما لا يتمكن من الوصول إلى العمل. لكنّه تمكّن من إيجاد دراجة مخصصة للأشخاص ذوي الإعاقة يتنقل بها، وهو فخور بما ينجزه.
وبحسب عضو "اتحاد المعطلين عن العمل" حسيب العبيدي، فإنّ العديد من الشباب يعملون بعيداً عن اختصاصاتهم. ويؤكّد أنّ التونسي عادةً، يعتمد على نفسه، لكن للأسف، فالاعتمادات المرصودة للمبادرات الخاصة ضعيفة جداً. ويضيف العبيدي، أنّ نسبة كبيرة من شباب الهامش يطمحون للهجرة السريّة أو ما زالوا ينتظرون عملاً في اختصاصهم، لكنّهم يئسوا من الجهات العامة والخاصة، إذ لم يجدوا أنفسهم في برامج الحكومة إو في الخطابات الرسمية حتى.
إلى ذلك، خلصت دراسة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أعدّها الباحث في علم الاجتماع، ماهر الحنين، تحت عنوان "سوسيولوجيا الهامش في زمن كورونا: الخوف، الهشاشة، الانتظارات" والتي تضمنت 106 صفحات، إلى أنّ هناك أزمة إنسانية حقوقية وهيكلية تشمل المجتمع الهامشي.
ويؤكد الحنين أنّ فيروس كورونا الجديد، وما تبعه من تدابير إغلاق، كشف عن فئات عريضة ممن يشكون من الفقر، وهم 700 ألف عاطل من العمل و285 ألف عائلة محتاجة و70 ألف عامل مؤقت، و622 ألف عائلة ذات دخل محدود و380 ألف متقاعد تقل أجورهم عن الحدّ الأدنى المضمون للأجور، إلى جانب 70 في المائة من اليد العاملة الزراعية. لكن، على الرغم من الأرقام الصادمة التي تكشف عن توسع دائرة الفئات الهشة، والمعاناة التي تتكبدها هذه الشرائح الاجتماعية خصوصاً الشبابية منها، يحاول البعض منهم التمرّد على الظروف، والانتفاضة على واقع لم يختاروه ليصنعوا من العجز الحكومي، ومن الفشل التنموي، قصص نجاح.