يُثير ارتفاع معدّلات الانتحار في العراق قلق العائلات، وقد باتت وقائعه تتكرر بصورة شبه يومية، علماً أن غالبية الضحايا من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والأربعين عاماً، في وقت ارتفعت النسبة لدى المراهقين أيضاً. ويعزو مسؤولون عراقيون وباحثون اجتماعيون ارتفاع هذه النسب إلى الفقر والبطالة وانعدام الأمل بالتغيير نحو الأفضل، وتسجل المدن الأكثر فقراً أعلى نسبة من حالات الانتحار، تتصدرها بغداد وذي قار وديالى.
وفي التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أصدرت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق بياناً كشفت فيه تسجيل 309 حالات انتحار منذ مطلع العام الجاري، وقالت إن الضحايا استخدموا وسائل متنوعة للانتحار. وعزت الأسباب إلى العوامل الاجتماعية والاقتصادية، مشيرة إلى أن حالات الانتحار تعد الأعلى لدى فئة الشباب. وبحسب عضو مفوضية حقوق الإنسان فاضل الغراوي، فإنّ هذا العدد من حالات الانتحار يؤشّر إلى وجود مشاكل حقيقية في المجتمع العراقي، وقد أدّت إلى ارتفاع عدد حالات الانتحار.
لكن مسؤولاً في وزارة الداخلية يقول لـ "العربي الجديد" إنّ قسماً من حالات الانتحار في القرى والمناطق البعيدة عادة ما لا يتم الإبلاغ عنه أو أنّه تسجل وفاة طبيعية بسبب خوف الأسرة من تبعات ذلك، بحسب العادات والتقاليد، خصوصاً إذا كانت الضحية أنثى، مضيفاً أنّ بغداد وذي قار والبصرة وديالى وبابل سجلت أعلى حالات الوفاة نتيجة الانتحار، مستدركاً أنّه "ليس سراً القول إن الدوريات ونقاط المراقبة على جسر الجمهورية والسنك والجادرية والأئمة في بغداد إحدى وظائفها مراقبة من يأتون بدافع الانتحار وتم إنقاذ الكثير منهم".
يُتابع أنّه "بمجرّد أن يقف أحدهم على الجسر بشكل قريب جداً، فهذا يعني أنّه سينتحر قريباً ويجب مساعدته"، لافتاً إلى أنّ المؤسسات المعنية غائبة تماماً عن الظاهرة، باستثناء جامعة بغداد التي عقدت ندوات عدة حولها بلا مخرجات أو توصيات.
حوادث الانتحار تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بكثرة أدخلت العائلات في دوامة جديدة. يقول حارث عبد الجبار الذي يعمل في مجال تجارة الأدوات الكهربائية إنّه شعر بالقلق على ابنه الأوسط بعد انتحار صديقه الذي يسكن في الشارع نفسه في حي التراث، جنوبي بغداد. يضيف لـ "العربي الجديد" أنّه يحرص على التقرّب من أبنائه الثلاثة ومحاولة معرفة مشاكلهم، خصوصاً الأوسط، علماً أنه الأكثر تأثراً عاطفياً من بينهم، كما أنّه الأكثر غرقاً في التفكير وحزناً لأيّ سبب.
يضيف عبد الجبار أن الحيّ الذي يسكن فيه شهد حالتي انتحار خلال عامين، والأسباب متشابهة. أحدهما انتحر بعد رفض منحه تأشيرة سفر إلى إيطاليا، هو الذي كان يأمل أن يتمكن من إكمال دراسته هناك في ظل ارتفاع نسبتي البطالة والفقر، بالإضافة إلى انتشار المخدرات التي يلجأ إليها الشباب بشكل متزايد بهدف "التخلص من الضغوط اليومية"، كما يقول حيدر كاظم، الذي لم يجد فرصة عمل جديدة بعدما فقد عمله في مزرعة للدواجن.
ويعترف حيدر الذي يبلغ من العمر 23 عاماً بأنه يلجأ إلى تعاطي الحبوب المخدرة، موضحاً لـ "العربي الجديد" أنها تنقذه من الهموم التي يعيشها بحسب تعبيره، ولا يستبعد أن يلجأ إلى الانتحار "هرباً من الحياة الصعبة"، التي يقول إنه يعيشها. ويوضح أنه يتعرض للضرب من والده لعدم قدرته على المساعدة في دفع تكاليف معيشة أسرته الكبيرة، علماً أن اثنين من أخوته يعملان مع والده لسد احتياجات العائلة اليومية، وكثيراً ما يبيت الليل في الشوارع.
وعلى غرار حيدر، فإنّ معاناة مماثلة تشمل عدداً كبيراً من الشباب، بالإضافة إلى قصص أكثر قسوة، بحسب رجب السعيدي الذي يدير متجراً لبيع المواد الغذائية في منطقة شعبية شرقي العاصمة بغداد، تقطنها عائلات فقيرة. ويؤكّد أنّها باتت خطيرة بسبب تأثر أفكار الشباب بتفاصيل سلبية.
أعداد كبيرة من الشباب والمراهقين باتت ضحية المخدّرات
يقول السعيدي لـ "العربي الجديد" إنّ أعداداً كبيرة من الشباب والمراهقين باتت ضحية المخدّرات، مشيراً إلى أن "أحد أسباب ارتفاع نسبة الانتحار هي نتيجة المخدرات، علماً أن بعض محاولات الانتحار فشلت بسبب هذه المواد السامة التي تؤثّر على عقول أبنائنا". ويرى أن "الفقر هو السبب المباشر الذي يدفع الشباب للجوء إلى تعاطي المخدرات، ما يزيد من ارتفاع نسب الانتحار"، مؤكداً أنه يلاحظ "زيادة مستمرة بعدد متعاطي المخدرات، وبالتالي زيادة عدد الأشخاص الذين يقدمون على الانتحار، وخصوصاً في المناطق الفقيرة مثل منطقتنا".
أما العائلات التي تعيش في مخيمات النازحين بعدما هُجّرت من مناطق سكنها إثر السيطرة عليها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" والحروب التي عايشتها، فتشهد مأساة كبيرة.
يعيش أحمد فياض في خيمة مع والدته المسنة المريضة وزوجته وأطفاله الثلاثة. ويقول لـ "العربي الجديد" إنه فكر في الانتحار أكثر من مرة، مضيفاً: "نعيش في صحراء على الأرض داخل خيمة. فأي حياة هذه؟". كذلك، يؤكد أن الصيف يكون شديد القسوة نتيجة الحرّ والشتاء كذلك نتيجة البرد والمطر، مضيفاً: "الدولة غير مهتمة بأمرنا، ولم يعد لدينا مأوى بعد هدم منازلنا بسبب داعش، وقد خسرت عملي بعد حرق الجرار الزراعي الذي كان مصدر رزقي".
جميع حالات الانتحار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالة النفسية التي تزداد اضطراباً كلّما عانىالشخص من ضغوط حياتية، بحسب الباحث الاجتماعي رحيم العزاوي. يضيف أن البطالة والفقر والمشاكل الاجتماعية أسباب كلّها عوامل تدفع الأشخاص إلى الانتحار. يقول لـ "العربي الجديد" إنه دائماً ما ينصح الناس بمراجعة طبيب نفسي وأخذ قسط من الراحة والسفر وتغيير الأماكن والتعرف إلى أشخاص جدد والمطالعة وممارسة الرياضة كالجري أو المشي أو السباحة، موضحاً أن "تجاوز الاضطرابات النفسية ممكن في حال الاستعانة بمعالج نفسي قبل أن تتطور الحالة". ويقول: "المؤسف أن الشباب في العراق لا يجدون أحياناً من يأخذ بيدهم في التوجيه، لذلك يضعفون أمام تحديات قد تكون بسيطة".
ويشير إلى أن من بين أسباب الانتحار في العراق "فشل علاقة حب أو الفشل في الدراسة، وأحياناً عدم حصول الطالب أو الطالبة على المعدل الذي يتمناه". ويقول العزاوي إن "هناك أسباباً تتعلق بالإدمان، علماً أن الإدمان هو نتيجة لاضطرابات نفسية".