النزوح الداخلي... سوريون يكتبون بدايات جديدة

13 يناير 2021
نازحون سوريون يستريحون على كومة من الأخشاب قبل بيعها (عمر حاج قدور/ فرانس برس)
+ الخط -

مع استمرار النزوح الداخلي في سورية، يسعى كثير من النازحين إلى تأسيس حياة جديدة، إما عبر بناء منزل يشعرهم بالأمان، أو تأسيس عملٍ يمنحهم الاستقرار، علّ ذلك ينسيهم ما عاشوه من مآسٍ

مضى نحو عشرة أعوام وما زال الملايين من السوريين نازحين من مكان إلى آخر بحثاً عن أماكن آمنة يلتقطون فيها أنفاسهم، التي قطعتها قنابل الطائرات وقذائف المدفعية والصواريخ. يضمّدون فيها جراحهم، علّ ذلك يوقف نزيفها الدامي، الذي صبغ سنواتهم بالمعاناة والمآسي والحزن على من فقدوا من أحباء، وخسروا من بيوت عاشوا فيها ذكريات لن تتكرر.
بدايات جديدة تُكتب للكثير ممّن يهجّرون من مناطقهم قسراً، أو ينزحون منها فراراً، متّجهين للاستقرار في المناطق الآمنة التي وصلوا إليها، باحثين عن أملٍ في نيل الطمأنينة والراحة لانطلاقتهم الجديدة في الحياة. يبنون منازلهم ويؤسسون أعمالهم ويمضون في دربٍ جديد.

كان بلال سليمان يقيم في خيمة للمهجرين من ريف حمص الشمالي، يترقب ما تحمله له الأيام في ريف إدلب بعدما وصل مهجّراً عام 2018. ومع انتقاله من الخيمة لبيت مكوّن من غرفتين في مخيم الخير، قرب بلدة دير حسان، بدأ يتجه للتفكير بانطلاقة جديدة يحقق من خلالها الاستقرار. ويقول سليمان لـ"العربي الجديد": "التهجير ليس سهلاً أبداً. التهجير كالموت والولادة. فالخروج من البيت، وترك الأرض والذكريات، وكل شيء خلفنا، وقبور من أحببنا، هو موت يدوم حزنه لأجل غير مسمى. تبقى ذكرياته تجول في الذهن دائماً، والعودة والاستقرار في عملٍ بعد التهجير، حياة جديدة كما الولادة. كنا ننتظر السلة الغذائية والمساعدات بعد وصولنا إلى المنطقة، لكنّ هذا أمراً صعباً ولن يدوم، ويبقينا تائهين بلا تفكير بالمستقبل". يضيف سليمان: "بدأت بالعمل في مجال البناء، وبعدها اتجهت للعمل في معمل للبلوك المخصص للبناء. كان العمل يستنزفني ويتعبني كثيراً، وأجره منخفض. مع الأيام تحوّل هذا العمل لدوّامة ضياع أعيش فيها. قررت تركه والاتجاه للمهنة التي أجيدها. فعدت إلى تصليح الدراجات النارية. قد لا تكون مهنة تدّر الكثير من المال لكنها تؤمن الاستقرار لي ولعائلتي. اليوم أعتمد عليها وأنا أشعر براحة في مهنتي وأعتمد على نفسي فيها".

الصورة
نازح سوري يبيع الخضار  (أحمد الأطرش/ فرانس برس)

المسكن بالنسبة للنازحين والمهجرين هو أولوية، ويجب الحصول عليه كخطوة مهمة للاستقرار وبدء حياة جديدة في المنطقة التي وصلوا إليها، بعدما غادروا مدنهم وبلداتهم. ويتطلب بناء مسكن شراء الأرض، ويمكن بعدها البدء بالبناء. ومن بين النازحين الذين تمكنوا من بناء منزل والاستقرار في الشمال السوري عيسى الخضر، الذي غادر بلدة الهبيط، وكان يقيم في مدينة إدلب مستأجراً منزلاً فيها. يتحدث الخضر لـ"العربي الجديد"، عن أهمية وجود مسكنٍ دائمٍ للنازح يقيم فيه، ويقول: "كنت في البلدة خلال قصفها من قبل الطيران الروسي، أخرجت أهلي بأعجوبة منها، لم يكن لدينا أي خيار كعائلة سوى البحث عن مكان آمن للاستقرار فيه. اشتريت قطعة من الأرض بالقرب من بلدة قاح، وبدأت ببناء منزل مكون من ثلاث غرف، وبعد الانتهاء من البناء، كان شعوري مختلفاً جداً عما لو كنت أقيم في منزل بالإيجار". ويتابع الخضر: "واجهت ظروفاً صعبة خلال بناء المنزل، وعانيت من ضغوطات كثيرة، مادية واجتماعية، لكن مع انتهاء البناء وإيفاء الديون التي تراكمت علي، والشعور بالاستقرار في المنزل، زالت كل الهموم والضغوطات التي كنت أعيشها. اليوم أذهب لعملي دون قلق على عائلتي. أعيش مع أمي وأبي وزوجتي في المنزل، نزرع بعض الخضار في فسحة الأرض المحيطة، ونربي الدجاج والبط كما لو كنا في بلدتنا".

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

بدوره، يستقر المدرّس أسامة عبد الهادي في منزله الذي بناه أخيراً بريف حلب الشمالي، قرب مدينة أعزاز. يقول لـ"العربي الجديد" إنّه بعد مغادرته ريف حمص الشمالي، قبل عدة سنوات، تنقّل في عدّة مناطق، ومن ثم أقام لمدّة في تركيا. لكن في العام الماضي، وجد عملاً مناسباً في التدريس داخل سورية، وأقام في عفرين، ومع الحاجة لمكان يستقر فيه، وعمله في ريف حلب، اشترى أرضاً بمساحة 200 متر مربع. ويشير عبد الهادي إلى أنّه بنى منزلاً فيها مكوناً من غرفتين، ويعيش اليوم بحالة من الاستقرار مع الانتهاء من بناء المنزل والإقامة فيه. ويوضح عبد الهادي أنّه خلال تنقله في المنطقة واجه العديد من الصعوبات، وفي آخر مرة أجبر على  مغادرة المنزل الذي كان يستأجره، لذلك، كان لا بدّ من إنهاء هذه الأمور التي تنغص الحياة، كما يصف. وعن المنزل الجديد، يقول عبد الهادي: "دائماً ما كنّا كسوريين نحاول الاستقرار في منزل، وكنا نمضي سنوات وسنوات لإنجاز هذا الحلم وسط ظروفنا التي كنا نعيشها. لم أهنأ بالعيش في منزلي بريف حمص. فعندما أتممت إنجازه احتلته قوات النظام السوري وخربته، ومع خروجها منه، دَمّرت الكثير منه ليصبح غير قابل للسكن. اليوم، بنيت منزلاً جديداً. سأتمسك بالحياة وأواجه ما فيها". 
ومن أولويات الاستقرار أيضاً، تأمين عملٍ في منطقة النزوح، باعتباره عاملاً مهماً لبدء حياة جديدة، والتطلع للمستقبل. ومن بين النازحين، هناك من لجأ لتأسيس عمله الخاص، ومن اتجه للعمل في تخصصه بوظيفة معينة في إحدى المنظمات الإنسانية. وفي هذا السياق، يوضح أيهم أبو النور، متحدثاً لـ"العربي الجديد"، أنّه وصل إلى مدينة الباب، في ريف حلب، مهجّراً من جنوب العاصمة دمشق. ويقول: "كنت اترقب ولادة ابنتي، واستأجرت منزلاً في مدينة الباب. لم يكن الجلوس في المنزل وترقب المساعدات الإنسانية خياراً بالنسبة لي. كان عليّ التأسيس لعمل لمواجهة مصاعب الحياة، وتوفير ما تحتاجه ابنتي. وبمساعدة شقيقي، بدأت مشروعي الصغير في محلّ بيع إكسسوارات أجهزة الهواتف المحمولة، والصيانة أيضاً. كانت الانطلاقة خجولة، وظننت في البداية أنّي ارتكبت خطأ، لكن بمرور الأيام، اكتشفت أنّ الخطوة كانت مهمة وضرورية". ووفق أبو النور، فإنّ تخصصه الجامعي لم يكن في هذا المجال، لكنّ الظروف فرضت عليه هذا العمل، وتماشى مع هذه الظروف وتفوّق على الواقع والتهجير ليبدأ من جديد.

الصورة
طفل سوري نازح ( احمد الأطرش/ فرانس برس)

ومن بين النازحين الذين أسسوا أعمالهم الصغيرة باحثين عن الاستقرار، علاء (36 عاماً)، الذي أسس دكاناً صغيراً في المخيم الذي يقيم فيه بالقرب من بلدة دير حسان في ريف إدلب الشمالي. وهذا الدكان يوفر له دخلاً يسدّ حاجة أفراد عائلته ومتطلباتها. ويقول لـ"العربي الجديد": "كنت أملك بيتاً في العاصمة دمشق وعملاً جيداً. وصلت مهجرّاً لريف إدلب عام 2018، لم يكن لي خيار سوى البدء من جديد بعدما خسرت كل شيء. كنت أرفض أن أكون نازحاً يترقب الحصول على السلة الغذائية، وأقنع نفسي على الدوام بضرورة العمل، واليوم أعيش مع أفراد عائلتي حياة جيدة".
كذلك، أسس عمار أبو أحمد، النازح من ريف حماة الشمالي، عملاً في منطقة أطمة، التي يقيم فيها منذ نحو خمسة أعوام، وانتقل العام الماضي لمنزله الجديد الذي بناه في المنطقة بعد شراء أرض فيها. ويتحدث أبو أحمد لـ"العربي الجديد"، عن أهمية التفكير بخطوات جدية للاستقرار، ويقول: "البقاء في الخيمة لم يكن خياراً بالنسبة لي، فمن غير المعروف متى يمكنني العودة لمنزلي وبلدتي. بداية كنت أتخيل أنّ المعاناة في النزوح لن تدوم إلّا لأشهر قليلة وسأعود لبيتي مع عائلتي، لكن مع مرور العام الأول في المخيم، والعام الثاني، تلاشت هذه الأفكار من ذهني. علمت أنّ الأمر قد يطول. خرجت من البلدة مع عائلتي بما لدينا من ملابس فقط ومدخرات. كان لا بدّ لي من تأسيس عمل. ففي النهاية، هذا الواقع الذي نعيشه ولا يمكن الفرار منه". ويضيف أبو أحمد: "أسست مشروعي الخاص في توزيع الإنترنت بمخيم أطمة. عندما بدأت أحصد ثمار العمل، شعرت بفرقٍ كبير بين كوني نازحاً يقيم في خيمة، يحصر فكره بالعودة، ويعيش على الحلم، وبين العمل ومواجهة ما تحمله الأيام لي ولعائلتي. اليوم، وبعد مضيّ سنوات على نزوحي، أصبح لديّ منزل وعمل أعتمد عليه".

لجوء واغتراب
التحديثات الحية

ووفقاً لتقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ما زالت الاحتياجات الإنسانية في سورية هائلة، مع استمرار المخاطر الكبيرة، على صعيد الحماية، في عددٍ من المناطق. وبحسب التقرير، هناك نحو 12.8 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية داخل سورية، من بينهم 5.2 ملايين شخص بحاجة ماسة للدعم.

المساهمون