استمع إلى الملخص
- عبد الرحمن نجا بجروح وكسور، ويعاني من آلام الفقد والفراق، حيث توقفت حياته عند ذلك اليوم المأساوي.
- الطائرات الإسرائيلية ألقت قنابل الفوسفور الأبيض وبرميلين متفجرين، مما أدى إلى استشهاد جميع من في المنزل، وعبد الرحمن يعيش في حالة من الحزن والحنين لعائلته.
"أعظم الله أجرَك.. لم يتبق أحد من أهلك على قيد الحياة".. كلمات وقعت على مسامع الشاب الفلسطيني عبد الرحمن أبو حصيرة كالصاعقة، بعد أن فقد والده ووالدته وجميع إخوته وأخواته وأبناءهم وعدداً كبير من أقاربه في مجزرة إسرائيلية استهدفت منزلهم الذي "كان آمناً"، في منطقة الميناء غربي مدينة غزة.
وعلى الرغم من الآلام الشديدة التي لا يزال يشعر بها عبد الرحمن جراء الجروح والكسور العديدة التي أصابته لحظة استهداف منطقتهم بالبراميل الإسرائيلية المتفجرة، كانت آلام الفقد وفجاعة الفراق أشد قسوة على قلبه وعقله، حيث لا تغادر ذكراهم مخيلته، بينما يعتقد طوال الوقت أنه كابوس مزعج وسينقضي.
وتوقف دوران ساعة عبد الرحمن الزمنية عند تاريخ الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهو التاريخ الذي شهد مجزرة مروعة، راح ضحيتها 45 فرداً من عائلته، فيما لم ينج أحد من إخوته وأخواته ووالديه ليؤنس وحشة وحدته.
ويقول عبد الرحمن وهو من سكان منطقة الميناء غربي مدينة غزة إن الحكاية بدأت في الرابع من نوفمبر الماضي، حيث بدأ اليوم كسابقه من أيام الحرب، التي يتم فيها توزيع المهام والأدوار بين أفراد العائلة، داخل البيت المكون من ثلاثة طوابق ويضم ما يزيد عن 40 فرداً، فمنهم من يذهب للمخبز لشراء الخبز، ومنهم من يذهب للسوق بغرض شراء ما يلزم من طعام، فيما ينشغل البقية بتعبئة المياه وشحن الهواتف وبطاريات الإضاءة.
شهد الرابع من نوفمبر الماضي مجزرة مروعة، راح ضحيتها 45 فرداً من عائلة عبد الرحمن أبو حصيرة، فيما لم ينج أحد من إخوته وأخواته ووالديه
ويلفت عبد الرحمن في حديث مع "العربي الجديد" إلى أنه ومع انتصاف نهار ذلك اليوم، وأثناء انشغاله مع والده رجل الإصلاح محمد أبو حصيرة في تعبئة المياه للتيسير على الأقارب وأبناء العمومة والجيران، تلقى جارهم الملاصق لمنزلهم اتصالاً يفيد بضرورة إخلاء البيت، وعلى الرغم من الشكوك في أن الاتصال عبارة عن "اتصال وهمي"، إلا أن والده طلب من الجميع مغادرة البيت نحو منزل ابنته أمل، فيما فشلت كل محاولات الأبناء بإقناعه بالبقاء داخل البيت وذلك تحسباً لأي خطر قد يحدث.
ويقول: "وصلنا إلى منزل أختي والذي يضم ما يزيد عن 20 نازحاً من الأقارب، جلسنا نتبادل أطراف الحديث، إلا أن هاجساً مزعجاً كان يرافقنا، وكأننا نشعر بأن شيئاً ما سيحدث، ومع حلول الساعة السادسة وردنا اتصال من ابن عمي يقول فيه إن الأوضاع مستقرة، وبإمكاننا العودة إلى البيت، حينها غادر بيت شقيقتي نحو 15شخصاً، فيما بقي والدي ووالدتي وإخوتي وأخواتي وأبناؤهم".
ولاحظ عبد الرحمن في تلك الليلة حركة غير طبيعية لطائرات الاستطلاع والطائرات الحربية الإسرائيلية، كان من بينهم خمس طائرات استطلاع متلاصقة ومعها طائرة كواد كابتر فوق منزل شقيقته المستهدف، الأمر الذي دفعه إلى الطلب من والده بالعودة إلى بيتهم بعد تأكيد كذب الاتصال الوهمي، إلا أن والده أصر على البقاء حتى صباح اليوم التالي، ما اضطره إلى مرافقة والده ووالدته والمبيت داخل منزل عمته".
ويستذكر عبد الرحمن تفاصيل ذلك اليوم، حيث طلب منه والده قبل المغادرة إلى شقة عمته شراء بعض المسليات، ويقول "كان هذا آخر طلب لوالدي، وآخر حوار بيني وبينه، حيث ذهبت للبقالة، وعندما رجعت لم أجده، فقد ذهب لزيارة جارهم القريب، فأعطيت الأغراض التي اشتريتها لشقيقتي وقلت لها إنني سأصعد مع ابن عمتي الشهيد عدنان للنوم في شقة عمتي في الطابق العلوي".
وعن تفاصيل لحظة القصف، يقول عبد الرحمن إنه صعد برفقة شقيقه الشهيد مصطفى إلى شقة عمته وجلس برفقة ابن عمته وزوجته وأبنائهم، ومع حلول الساعة الثامنة والنصف بدأت الطائرات بإلقاء قنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً على مدينة غزة وشمالها وعلى مخيم الشاطئ القريب من المنزل، والتي سبّبت دخاناً كثيفاً عمَّ أرجاء المنطقة، ما دفع عدنان إلى إغلاق النوافذ خوفاً من الأضرار الجسيمة للدخان المنبعت من تلك القنابل".
ويتابع: "في تلك اللحظة قمت من مكاني وأشعلت ضوء الهاتف لمساعدة عدنان في إغلاق ثغرة أخرى يمكن للدخان المرور عبرها، في تلك اللحظة أطلقت الطائرات الحربية برميلين متفجرين على منزل شقيقتي يزن كل برميل طنّيْ متفجرات، أدى إلى استشهاد كل من في المنزل وعددهم 45 شهيداً، من بينهم 29 شهيداً قريباً من الدرجة الأولى، لم أستوعب حينها ما الذي جرى في حين لا يزال الهاتف في يدي والضوء مشتعل إلا أنني لم أر شيئاً بفعل الغبار الكثيف، قمت لحظتها بالاتصال بابن عمي وقلت له (الحقنا الدار وقعت علينا)، وبدأت بإزالة الركام من حولي بعد أن انحسر الغبار قليلاً، وقد تمكنت حينها من إنقاذ ابنة عدنان الصغيرة".
وأصيب عبد الرحمن نتيجة القصف بكسر في كتفه وجروح في أسفل قدمه وركبته وحروق في يده لا يزال يعاني آثارها وآلامها حتى الآن بفعل شح الأدوية وانهيار القطاع الصحي، وأدى القصف العنيف إلى تقطيع أجساد الشهداء وتحويلها إلى أشلاء، فمنهم رأس بدون جسد، ومنهم جسد بلا رأس، وقد استشهد في القصف والده محمد أبو حصيرة (54 عاماً)، ووالدته حورية أبو حصيرة (50 عاماً)، وأشقاؤه مصطفى (23 عاماً) وعمر (16 عاماً)، وشقيقاته أمل (27 عاماً)، وإسراء (26 عاماً)، وأبناؤهم، بالإضافة إلى عمه وأبناء عمه وبناته وأولادهم، وعمته وابنها وزوج ابنة عمه، بالإضافة إلى خالته وخاله.
ولم يقطع عبد الرحمن الأمل في سماع أخبار مطمئنة عن أي من أفراد عائلته إلى أن جاءه الخبر اليقين والذي كان يخشاه وهو استشهاد جميع أفراد عائلته، ويقول "بعد مرور عشرة شهور على المجزرة إلا أنني ما زلت أذهب الى البيت المستهدف على أمل أن أجد والدي أو والدتي أو أحد أفراد عائلتي التي كان يغمرها الحب والمرح والأمل في غد أكثر أمناً".
ويتابع عبد الرحمن والذي أنهكه الحنين إلى عائلته "بعد فقدان أهلي بلا أي ذنب اقترفوه استشعرت بأنني بقيت وحيداً في هذه الدنيا، أواجه تحدياتها، وأعافر في صعوباتها، بت على قناعة بأنني لست الناجي الوحيد، فأنا لم أنج من نيران الشوق، لكني ما زلت أنتظر وعد والدي لي بالعودة إلى بيتنا وضحكاتنا وأحاديثنا في اليوم التالي، إلا أن شمس اليوم التالي لم تشرق بعد".