المنازل المهدمة ملاذ أهالي غزة هرباً من حياة الخيام

04 يناير 2025
غرفة للعيش بمنزل مهدم في خانيونس، 3 ديسمبر 2024 (يوسف الزعنون/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه سكان غزة تحديات كبيرة في العيش داخل منازلهم المدمرة بسبب القصف الإسرائيلي، حيث يفضلون العودة إليها رغم خطورتها على العيش في الخيام التي تفتقر لأبسط مقومات الحياة.
- تعاني المنازل من انعدام الأمان، حيث يضطر الأهالي لاستخدام مواد بسيطة لإغلاق الواجهات المكشوفة بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء وصعوبة الحصول عليها نتيجة الحصار.
- يعيش السكان في ظروف قاسية بين الركام، حيث يفضلونها على حياة الخيام، ويعملون بجهد لإزالة الركام وتهيئة مساحات للعيش في ظل غياب الدعم الكافي.

يتجاهل الكثير من أهالي غزة مخاطر العيش في البيوت المهدمة، وقد اختاروا العودة إلى العيش في المساحات المتوافرة من منازلهم المتضررة من القصف الإسرائيلي، بعدما أنهكتهم حياة الخيام والنزوح.

داخل جزء من بيوت مهدمة، أو في شقق مكشوفة الجدران، أو بين أكوام الركام، استصلح فلسطينيون في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة ومناطق أخرى في مدينة غزة، أجزاءً من منازلهم المدمرة وأزالوا الحجارة والركام بأدوات بسيطة، وسكنوا فيها في ظروف حياة صعبة وخطرة في الوقت ذاته، نتيجة عدم صلاحية تلك المنازل للسكن بسبب تكسر الأعمدة وانهيار الأسقف وميَلانها أو تقوسها وتفريغ حجارة الجدران وواجهتها، ما يجعلها غير آمنة.
يفضل هؤلاء العيش بين الركام أو داخل بقايا المنازل المدمرة، بعد تجربة مريرة عاشوها داخل خيام مهترئة لا تقيهم حرارة الشمس أو برد الشتاء، ويفتقرون فيها إلى أدنى مقومات الحياة. ورغم عدم وجود فوارق كبيرة بين المنازل المدمرة وحياة الخيام، وإن كان هناك خطر من حدوث انهيارات وسقوط حجارة وأجزاء من أسقف وأعمدة كلما حدث قصف إسرائيلي قريب، إلا أن العيش في مكان النشأة والتشبث بالأرض والنوم تحت سقف من الحجارة هرباً من المطر، هو ما دفع آلاف الأهالي إلى العودة إلى منازلهم.
عاد إياد الطويل إلى منزله الواقع وسط مدينة خانيونس، بعد انسحاب جيش الاحتلال منها مخلفاً دماراً هائلاً، ويقول إنه لم يتخيل أن يعود للعيش هو وأخوته مرة أخرى في منزله المكون من أربع طبقات. وأمام غياب البديل، ومعاناة العائلات داخل الخيام في منطقة المواصي، أغلقوا الجدران المدمرة جراء القصف بشوادر وبعض ألواح الزينكو، وسكنت كل عائلة داخل شقتها. 
يجلس الطويل أسفل البناية السكنية على كرسي بلاستيكي، حيث يتدلى أحد الأعمدة من السقف الرابع، علماً أنه يمكن أن يسقط في أية لحظة. في الطابق الأول، غطوا الواجهة المطلة على الشارع بستائر. وفي الطابق الثاني، استخدموا نايلون لستر البيت. وفي الطابق الثالث، وضعوا شوادر وأغطية قماشية. وفي الطابق الرابع، لم يوجد سوى غرفة واحدة صالحة للعيش. 

تفتقد بيوت غزة المدمرة والمتضررة إلى أي من أشكال الأمان المعيشي

يروي لـ "العربي الجديد": "كنت في الطابق السفلي مع إخوتي وأولادهم حين قصفت شقتي، وحينها نزحنا. بسبب اجتياح الاحتلال والقصف المتكرر للمنطقة، احترقت جميع الشقق بما فيها من أثاث ومقتنيات. البيت الآن في حالة صعبة، فكل الجدران محطمة، وبقيت الأسقف، وأحدها مشطور لنصفين، وبعض الأعمدة تكسرت وانفصلت عن قواعدها. حضر المهندسون في بداية سكننا وأخبرونا أن البيت بحاجة للهدم، وأنه غير صالح للسكن".
يستحضر صورة الحيّ لحظة عودتهم إليه، قائلاً: "كان الدمار هائلاً، وتملأ الحجارة الشارع، وتعاون الأهالي مع البلدية لإزالتها وفتح الطريق، وكذا في تنظيف البيوت من الحجارة وتجميعها في أماكن داخل الشقق لإفساح مكان للعيش، وهذا الأمر استغرق وقتاً وجهداً. لا تتوقف مخاوفنا عند العيش في شقة مدمرة تحت سقف مقسوم لنصفين. نراقب الأطفال طوال الوقت، فضلاً عن معاناتنا في نقل المياه للأعلى مع تدمر البنية التحتية في المنزل، وعند حدوث قصف قريب تسقط الحجارة علينا من السقف، وفي إحدى المرات سقط جزء كبير من السقف، ونجوت من موت محقق. نستر أنفسنا بالبيت في هذا الحال الصعب إلى أن تنتهي الحرب، ونستطيع إعادة إعمار المنزل، وهذا حال كثير من الناس في القطاع".
وبصعوبة، يستطيعون الوصول إلى شققهم بسبب تضرر درج البناية، ورغم المخاطر، لكنهم يفضلونها على العيش في الخيام. يقول الطويل: "العيش في الخيام صعب، فالبرد لا يمكن تحمّله، كما أنها تغرق بمياه الأمطار، وهنا تصل إلينا مياه الأمطار، لكن بصورة أقل. هنا تعيش في منزلك وسط جيرانك وأحبابك، ولا تكون عبئاً على أحد".

أطفال في أحد المنازل المضررة في خانيونس، 7 أكتوبر 2024 (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
أطفال في أحد منازل خانيونس المتضررة، 7 أكتوبر 2024 (أشرف أبو عمرة/الأناضول)

ولا يستطيع سكان غزة شراء حجارة بناء لإغلاق واجهات الجدران المكشوفة، إذ إن كلفة الحجر الواحد باتت تبلغ 12 شيكلاً (3 دولارات)، أما كيس الإسمنت، فيبلغ سعره 800 شيكل (220 دولاراً)، بينما لم يكن يتجاوز سعره قبل الحرب 25 شيكلاً (7 دولارات)، وبالتالي يمكن أن تضاهي كلفة ترميم البيت كلفة بناء شقة جديدة كاملة.
وتحدّ ظروف الحرب الصعبة ومنع إدخال مواد البناء وغياب مصادر الدخل من قدرة الأهالي على إصلاح منازلهم المهدمة، ولو بالحد الأدنى، وبالتالي يضطرون إلى استخدام الستائر القماشية والشوادر والنايلون وألواح الزينكو وبعض الحجارة لإغلاق الواجهات.
لم يبقَ من منزل ماهر اللحام الذي كان يمتد على مساحة 200 متر ويتكون من طابقين، سوى غرفة واحدة ينام فيها مع أولاده، رغم أن سقفها مقوّس وتتساقط أجزاء من حجارته مع كل قصف قريب. يقول لـ "العربي الجديد": "نعيش بالمعنى الحرفي بين الركام، وليس داخل بيت مدمر جزئياً كما يعتقد البعض. الغرفة خطرة، وعندما أنام، تتساقط علينا الرمال والحجارة الصغيرة، وينتابني في كل لحظة شعور بالخوف من احتمالية سقوط السقف علينا".
لطمأنة أسرته، أزال اللحام كل الأشياء الثقيلة عن سقف الغرفة، حتى لا يؤدي الثقل إلى انهياره. مع ذلك، لا تشعر زوجته بالأمان، وتقول: "نشعر أننا نعيش في مكان غريب عنا، وكأنه ليس بيتنا الذي عشنا فيه لسنوات طويلة. إضافة إلى السقف المقوّس، يملأ لون غامق ناجم عن الاحتراق جدران الغرفة، ما يجعلها معتمة في النهار، فضلاً عن وجود واجهة مكشوفة على الشارع، أغلقتها العائلة بستارة قماشية. هذا كل ما تبقى للعائلة من منزلنا الواسع".

دمار جراء قصف إسرائيلي على مدينة غزة / 13 أكتوبر 2024 (Getty)
مأوى بين الركام بمدينة غزة. 13 أكتوبر 2024 (Getty)

إلى جانب الغرفة، يوجد سقف مائل على أرضية الشقة، وجعل اللحام من الفراغ بين السقف والأرض مكاناً للاستراحة والوصول إلى أشعة الشمس ونشر الملابس. تذكره تلك الجلسة في كل مرة بحجم الدمار الذي لحق بالمنطقة، وبالبيوت المجاورة التي أصلح فيها الجيران غرفة أو غرفتين للعيش، لكنها تظل أفضل من حياة الخيام التي مثلت له هاجساً لم يستطع التأقلم معه.
يتذكر نزوحه من مدينة خانيونس إلى غرب منطقة المواصي، حيث عاش في خيمة على شاطئ البحر غمرتها المياه أكثر من مرة. يدرك حجم الخطر الذي يعيش فيه،  لكنه يقول: "انعدام الخيارات، وعدم وجود مأوى بديل أجبرنا على النوم هنا، إضافة إلى خطر القوارض والحشرات التي تلسعنا باستمرار. بعد وصولنا إلى المنزل عقب انسحاب جيش الاحتلال، جمعنا كومة كبيرة من الحجارة في أحد الجوانب. الردم كان كبيراً لدرجة أن انتابني الإحباط في اليوم الأول من قدرتنا على إزالته، لكننا واصلنا بمساعدة الأقارب، ثم فتحنا مدخل البيت، ونظفنا الدرج، وقمنا بإزالة كمية كبيرة من الحجارة من داخل الغرفة التي نعيش فيها الآن، استغرقتنا هذه الغرفة وحدها نحو أسبوعين من العمل المتواصل".
لا يختلف حال بيت الشاب أمين اللحام عن غيره، إذ لم يبقَ من البيت المكون من ثلاثة طوابق سوى غرفة واحدة تؤوي عائلته المكونة من ثمانية أفراد. لكنهم يعيشون في ظل مخاطر انهيار أسقف الطوابق العلوية على الطابق السفلي الذي توجد فيه الغرفة، ما يهدد حياتهم.
تعرضت بقية أقسام الشقة لدمار واسع طاول الجدران التي باتت مكشوفة على الشارع، كما تملأ الحجارة أرض الشقة، ولم تستطع العائلة إزالة الردم نتيجة حجمه الكبير، باستثناء مساحة صغيرة جعلوها صالحة لغسل الأواني والملابس، وإعداد الطعام. يقول أمين لـ "العربي الجديد": "نخشى من سقوط الطوابق علينا، فمعظم أعمدة البيت تعرضت للدمار. رغم محاولتنا التواصل مع مهندسين لتقييم حالة المنزل، إلا أننا لا نستطع الوصول إلى أيهم".

وتفتقد البيوت المدمرة لكل مقومات الأمان، ليس فقط بسبب انكشاف واجهاتها وتضرر جدرانها، بل أيضاً نتيجة تضرر مداخل العمارات وتدمر الأبواب، ما أفقد البيوت قدرتها على توفير الحماية من الكلاب الضالة والقوارض، وحتى اللصوص.
في بيت تدمرت واجهته، لا يكفّ سلامة الدهشان عن توصية زوجته بالانتباه إلى طفلهم الصغير، خوفاً من اقترابه من الحافة والسقوط، إذ إن ارتفاع أسعار الحجارة يحدّ من قدرته على إنشاء جدار ينهي مخاوفه، لكنه وضع بعض الأخشاب جاعلاً منها جداراً.
داخل المنزل، صنع الدهشان سريراً للنوم من أخشاب وضعها على غالونات زيت الطهي التي تحولت إلى قواعد للسرير. يقول لـ "العربي الجديد" وهو يقف على مقربة من الواجهة الخشبية المطلة على الشارع: "الحياة صعبة لأننا نعيش في وسط مأساة، ولا نستطيع إغلاق الواجهات المدمرة. نزحنا من مدينة غزة، وأعيش في بيت أحد الأصدقاء الذي أصلحنا فيه غرفة ينام فيها سبعة أفراد".