المعمار سنان... يعيش في 365 تحفة عثمانية

25 اغسطس 2022
تمثال المعمار سنان في ساحة جامع السليمية بأدرنة (غوخان بالشي/ الأناضول)
+ الخط -

يقلّ تناول التاريخ الشخصي للمعمار السلجوقي سنان الذي ولد عام 1490 ميلادياً في قرية آغرناص الصغيرة بتركيا، والتي حملت اسمه بعدما ذاعت شهرته، وباتت تعرف بـ"سنان كوي" أي قرية سنان. فالحقيقة أنّ الحديث عن سنان يتركز غالباً على عبقريته المعمارية التي غيّرت وجه الإمبراطورية العثمانية، وقد يترافق مع تفريعات تتناول موضوع اعتناقه الإسلام في سن الـ23 قبل أن يلتحق بالجيش العثماني، ثم يمتهن التجارة التي لعبت دوراً مهماً في رسم بعض ملامح شخصيته، قبل أن يغدو إحدى "فلتات عصره". 
في حياة سنان شيء من الزهد، وهو القائل: "أجريت بالعدل أحكامي. لا أعرف قصد الرياء، انتظر فقط خير الدعاء. ذو المال يبني مسجداً، وهذا الفقير يسأل الدعاء"، وكذلك أشياء من الحب وغرامه بالسلطانة مهرماه، وحكايات طفولة طواها الزمن سنحاول التطرق لبعضها قبل التركيز على عبقرية إنجازاته المعمارية، والحلول الهندسية التي ابتدعها، وصارت قواعد ونظريات لا تزال تطبق حتى اليوم. 

حكاية القبر
"الفرجار" (أو البيكار الذي يستخدم في الرسم الهندسي) من الحكايات التي تروى عن سنان في تركيا، وتستمد من شكل ضريحه الذي أوصى بأن يأخذ شكل الفرجار، ويقع في زاوية مجمع السليمانية الذي يوصف بأنه أحد أفضل ما بناه سنان. 
وينقل عنه قوله: "تعلمت في مدرسة عجمي أوغلانر، وولعت بمهنة التجارة، وعملت في خدمة معلمي بحزم مثل ساق الفرجار الثابتة تماماً، فراقبت منطقتي وما حولها، ثم اهتممت بالتجول في بلاد أخرى، مثل الساق المتحركة للفرجار أيضاً. جلت وطفت في بلاد العرب والعجم خلال خدمتي السلطان، ولم أترك زاوية أو خربة إلّا طفت بها وتجوّلت، ثم عدت إلى إسطنبول". 
ويخبر الأتراك عن القبر أنّ سنان أوصى بألّا يكون في مكان شهير، ولا يأخذ شكلاً مترفاً، وأنّه صمّم بنفسه شكله البسيط خارج جامع السليمانية حيث دفنت زوجته مهري خاتون في جواره. وحين سئل عن بساطة قبره، وهو عبقري العمارة، أجاب: "كي لا يصبح المزار محجاً". 

كرمى للسلطانة مهرماه
وعن غراميات من يوصف بأنه "أب العمارة العثمانية الأصيلة والأصلية"، ينقل الأتراك أنه أحبّ ابنة السلطان سليمان، مهرماه، والتي يعني اسمها "سلطانة الشمس والقمر" وبنى مسجدين كرمى لها، ووفاء لحبه الذي لم يكلل بالزواج، الأول في حي أدرنة كابي بالشطر الأوروبي من إسطنبول، والثاني بمنطقة أسكودار في قسمها الآسيوي. ويقال هنا أن سرّ المسجدين أنه في يوم 21 مارس/ آذار، وهو يوم مولد مهرماه، من كل عام، تغرب الشمس من فوق مئذنة المسجد الأوروبي، ثم يطلع القمر مكتملاً فوق مئذنة المسجد الآسيوي، ما يحقق معنى اسم "سلطانة الشمس والقمر" مهرماه نفسها، ويشير أيضاً إلى أنه وسلطانته لا يمكن أن يلتقيا، مثل الشمس والقمر.

الصورة
إطلالة جامع رستم باشا الذي بناه سنان على البوسفور (لويس غولدمان/ Getty)
إطلالة جامع رستم باشا الذي بناه سنان على البوسفور (لويس غولدمان/ Getty)

المنزل المتحف
وفي منزله بقرية آغرناص (سنان كوي حالياً) في ولاية قيصري، والذي تحوّل اليوم إلى متحف، حكايات يندر أن تذكر لدى الحديث عن سنان، علماً أن المنزل يستقبل آلاف الزوار بعد إضافة الكثير من فنون العمارة عليه، وبات يجمع بين فرادة الهندسة واللمسات الخاصة. 
ويروي المرشد السياحي بلال أرموش لـ"العربي الجديد" أن "الطابق الأرضي لمنزل سنان الحجري يزخر بأقواس حجرية ويتضمن لمسات هندسة مبتكرة خاصة، وبينها مدخنة الموقد الناري التي تدخل الضوء والتهوية، فيما كانت تستخدم للطبخ تحديداً، وكذلك نظام الإضاءة الطبيعي في المطبخ وغرف التخزين تحت الأرض، ما يدل على الموهبة المبتكرة لدى سنان". 
ويؤكد اهتمام الحكومة التركية بمنزل المعمار سنان، سواء على صعيد الترميم المستمر، وآخره عام 2004، أو تحويله إلى متحف عام 2000. وأصل المسكن ريفي يلبي متطلبات المرحلة التي عاش فيها سنان، ويتضمن غرفاً معزولة ومصممة لتكون دافئة في الشتاء وباردة في الصيف، من خلال الطين المستخدم وعرض الجدران وارتفاعها، وكذلك مخازن تحت الأرض وإسطبلات لتربية الحيوانات. 

الإرث الخالد
وفيما يبقى الإرث المشهود للمعمار سنان عامل الجذب الأكثر أهمية في شخصيته وإنجازاته، تتمثل عبقريته النادرة في تركه، خلال نحو 70 عاماً من العمل، آثاراً معمارية بعدد أيام السنة في كثير من دول العالم، وليس في تركيا فقط، وشملت 92 جامعاً كبيراً، و52 مسجداً صغيراً، و55 مدرسة، و7 دور لتحفيظ القرآن الكريم، و20 ضريحاً، و17 دار إمارة، و3 مستشفيات، و6 ممرات مائية، و10 جسور، و20 خاناً، و36 قصراً، و8 مخازن، و48 حماماً. وكان لمدينة إسطنبول الحصة الأكبر من فنه وآثاره، فهي تضم نحو 200 معلم عمراني من تصميمه، أهمها ضريح خير الدين بارباروس باشا في منطقة بشيكطاش، وكلية عتيق والدة سلطان بمنطقة أوسكودار، وقصر إبراهيم باشا بميدان السلطان أحمد، ومآذن جامع آيا صوفيا، وحمام كتخدا خسرو في منطقة أورتاكوي، ومدرسة سيمز علي باشا في الفاتح ومجمع السليمانية الذي يحتوي على جامع ومكتبة ومدرسة.

الصورة
داخل جامع السليمانية (محمد إنس يلديريم/ الأناضول)
داخل جامع السليمانية (محمد إنس يلديريم/ الأناضول)

جسر خلال 13 يوماً
ويقال إن بداية اطلاع سنان على العمارة وفنونها بدأ بعدما شارك في حملة السلطان سليم الأول على الشام ومصر، حين قارن وقارب بين فنون العمارة القديمة ونظيراتها التي بنيت في العهدين السلجوقي والصفوي. 
وقد يكون اكتشاف موهبته تسبب في إبعاده عن نخبة القوات العثمانية الإنكشارية، رغم أنه أبدع في الفنون العسكرية، كما تروي الكتب، خاصة خلال مشاركته في حملات السلطان سليمان القانوني على بلغراد عام 1521 ورودوس عام 1522، حين جرت ترقيته في الرتب والمواقع.
ويرجح أن إصدار الوزير العثماني لطفي باشا سنان أوامر ببناء سفن حربية بمجاديف "قوادس" خلال الحرب العثمانية الصفوية بين عامي 1532 و1555، في مدينة تطوان جنوب شرقي الأناضول، عجّل في تفرّغ سنان للفنون والعمارة، خاصة بعدما أبدع في بناء جسر خلال فترة 13 يوماً فقط، بتكليف أيضاً من لطفي باشا نفسه، فوق نهر بروت الذي يربط بين رومانيا ومولدوفا اليوم، وأطلق عليه حينها اسم "باشمهندس".
ولا تنتهي حكايات عبقري العمارة سنان، مثل تلك الخاصة بالأفعى والجان في المنطقة العربية، وتتضمن مبالغات تطلقها إبداعاته الواسعة وذخيرة إنجازاته التي لا تنتهي ولا تنضب، بعدما ترك أثاراً في مختلف مناطق وولايات الدولة العثمانية، وأهمها بناؤه مآذن وقبة مسجد كنيسة آيا صوفيا بعد تحويلها إلى جامع، ومستشفيات ومخابز ومدارس سبقت تصاميمها عصرها بكثير، مسجد شاه زاد المربع الذي اعتبر أول مبنى متماثل ثنائي المحور في شكل نصف كروي كبير ومغطى بـ4 أنصاف قباب حوله. وقد يكون التصميم الأهم مسجد السليمية (في ولاية أدرنة حين كانت عاصمة للدولة) والذي يصنف بأنه أحد الأبرز في فنون العمارة العثمانية، خاصة قبته التي تفوق حجم قبة آيا صوفيا.

ويبلغ قطر قبة جامع السليمية 31.5 متراً، وتضم 8 أركان أقواس حاملة هائلة. وهي تجسد قمة إبداع سنان "المحترف والمعلم"، وهو ما أطلقه على نفسه بقوله: "أقسّم حياتي المهنية إلى ثلاث مراحل، أولها بناء مجمع شاه زاده الذي أظهرت فيه إبداع العامل المتدرب، ثم جامع السليمانية الذي عرضت فيه إبداع المعاون، وأخيراً جامع السليمية، آخر أعمالي، وهو مرحلة إبداع المحترف أو المعلم". 

المساهمون