المعلّم وبائع الكتب في غزة

30 ابريل 2021
في انتظار من يطلب المعرفة (محمد الحجار)
+ الخط -

 

يجلس محمد حسن ماضي البالغ من العمر 60 عاماً بالقرب من رصيف الجامعة الإسلامية في وسط مدينة غزة، محاطاً بمجموعة متنوعة من الكتب الجديدة والقديمة طغى اللون الأصفر على أكثر صفحاتها. عند الاستفسار عن مؤلَّف ما، يستعين بذاكرته القوية التي تخوّله شرح كل كتاب ورواية يبيعها، فهو كان في الأساس أستاذاً وقارئاً محترفاً، ما جعله مقصداً لعدد كبير من الزبائن.

تعود أصول ماضي إلى قرية بيت جرجا التي احتلها الإسرائيليون في خلال نكبة 1948، وقد هُجّرت بالتالي عائلته إلى قطاع غزة. يُذكر أنّ القرية تقع إلى شمال شرق مدينة غزة. يخبر ماضي أنّ لديه أربعة أبناء وابنة واحدة، علماً أنّ أكبرهم ويُدعى ثائر استشهد عندما كان يبلغ من العمر 21 عاماً في الحرب الإسرائيلية الأولى على القطاع.

بعد إنهائه تعليمه الثانوي في عام 1978، كان ماضي ينوي السفر إلى لبنان لمتابعة دراسته في جامعة بيروت العربية. لكنّه تعرّض إلى الاعتقال على يد الجيش الإسرائيلي واستُجوب عن سبب سفره. لم تلفح محاولات ماضي بإقناع جيش الاحتلال بسبب سفره، فاعتُقل إدارياً لأشهر عدّة بتهمة الانضمام إلى التنظيمات الفلسطينية في لبنان. وبعد الإفراج عنه لعدم ثبوت التهمة عليه، رفض السفر إلى الخارج. وكانت حينها الجامعة الإسلامية في غزة قد تأسست، فحصل على بكالوريوس في علم الاجتماع منها. وبعد تخرّجه عمل في الأراضي المحتلة، وعُيّن مدرّساً للمواد الاجتماعية في عام 2000، بنظام المياومة مع وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، ثم تمّ تثبيته في عام 2003.

الصورة
بائع الكتب في غزة 2 (محمد الحجار)
كتاب من ثروته اصفرّ ورقه (محمد الحجار)

يخبر ماضي: "أمضيت طفولتي في ظروف اللجوء الصعبة مع والدي الذي كان فلاحاً قبل النكبة. وقد فرض الاحتلال على أسرتي العيش بين الخيم والمنازل المتلاصقة وسط ظروف صعبة جداً. لكنّني خرجت من هذه البيئة طفلًا مثقفاً، باحثاً عن المعلومة في الكتب. فهوايتي المفضلة كانت زيارة المكتبات القديمة في غزة". وبدأ حبه للقراءة في عام 1975، عندما كان يزور مكتبة الهلال الأحمر القديمة في غزة برفقة زميله في المدرسة. حينها كانت بداية تعرّفه على الفكر الشيوعي، على الرغم من عدم درايته ببعض المصطلحات المستخدمة حينها. يضيف ماضي "بقيت غريزة القراءة في داخلي مثلها مثل الأكل والشرب والماء والهواء. لم تعد المكتبة تشبع شغفي، فتوجّهت بعدها إلى المكتبات التجارية، مثل مكتبات النهضة والهاشمية واليازجي، وهي أقدم مكتبات تجارية كانت حينها في قطاع غزة. وانتقلت إلى قراءة الروايات العربية لكتاب وأدباء وروائيين مثل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ويوسف السباعي وإبراهيم المازني، كذلك الرويات العالمية بمختلف أنواعها. وكنت أقرأ يومياً ما بين خمس ساعات وستّ. حتى في خلال تنقلاتي للعمل في داخل الأراضي المحتلة، كان الكتاب رفيقي الدائم".

الصورة
بائع الكتب في غزة 3 (محمد الحجار)
هذا ما يقدّمة لمن يرغب (محمد الحجار)

هوسه بالقراءة دفعه إلى إنفاق ثلثَي راتبه على الكتب، لتتقلص نفقاته بعد زواجه. ولا يخفي ماضي أنّ عائلته كانت تنزعج من طريقة إنفاقه على الكتب، لكنّ والده وهو ليس متعلماً، كان يتمنى أنّ يكون أحد أبنائه بخلاف ذلك. وبالفعل حقق حلم والده بعدما أصبح مدرّساً. لكنّ الفرحة لم تكتمل، فقد توفي والده قبل أنّ يرى ابنه وقد امتهن التدريس. يشعر ماضي بالضيق، بسبب الفارق الثقافي بين الجيل الحالي والذي سبقه وكان مهتماً بالكتب. ويرى ضرورة أن يعطي الجيل الجديد الكتابَ حقّه. ويقول: "أتمنى النهوض بالقراءة، كما قالها سقراط: ابدأ بنفسك. ومن أجل البدء بالنفس، اذهب إلى القراءة حتى تغيير كل أنماط المجتمع، مستشهداً بمقولة أنّ: الأمراء والقراء إذا صلحوا صلحت الأمة وإذا فسدوا فسدت الأمة. وللأسف نعيش في مجتمع فيه علماء منافقون لهم تبعية سياسية، والأمراء فحدث ولا حرج، والشعب معظمه منتفع، فيما الجهل مسيطر على القسم الآخر".

طلاب وشباب
التحديثات الحية

وقد جمع ماضي في حياته آلاف الكتب، قرأ نحو 90 في المائة منها، بحسب ما يؤكد، وهو رقم كفيل بتحويله إلى مدمن قراءة. ولأنّه لم يستطع توريث حبّه للكتب لأبنائه، قرر بعد التقاعد بيع كتبه للعامة. يقول: "كانت والدتي تسألني عن كمية الورق في المنزل، لأردّ عليها إنّ هذه الأوراق لا تقدّر بثمن، وقد كتب عليها تاريخ وحضارة وفكر ومعرفة. ومن جهتها، تنظر زوجتي إلى الكتاب كعدوّ لها". يضيف: "أريد أنّ ينتفع الجميع ممّا جمعت. حتى لو أنّني اشتريت الكتب بمبالغ كبيرة، ما يهمني هو ذهابها إلى من هم في حاجة لها". ويتابع: "عند فتح المكتبة على الرصيف، كنت أتحسّس من نظرة طلابي. بعد ذلك لم أعد أبالي. فأنا أنقل المعرفة". وبالفعل، صار ماضي مقصداً للطلاب في الجامعات المجاورة، ويستشيرونه في مسائل عديدة عالقة في مناهجهم.

المساهمون