"المطهر" الفلسطيني... ختان الذكور بالطرق التقليدية يواجه الاندثار

24 نوفمبر 2022
المطهر الفلسطيني طاهر أبو الكلبات يحمل أدواته (العربي الجديد)
+ الخط -

في محل صغير ملاصق للباب الشرقي في مسجد "الصلاحي الكبير" بالبلدة القديمة من مدينة نابلس، يروي الحاج طاهر صالح أبو الكلبات قصصاً بعضها غريب وبعضها مضحك مرت عليه خلال عمله الطويل في مهنة "المطهر"، والتي ورثها عن والده وأجداده، ونقلها إلى نجله الأوسط شريف (42 سنة)، الذي كان يجلس إلى جواره.
تكاد تكون مهنة المطهر التقليدي في نابلس محصورة بعائلة الحاج طاهر، ويقول لـ"العربي الجديد": "أجدادي مارسوا هذه المهنة منذ مئات السنين، وإضافة إلى الختان، كانوا أيضاً حلاقين، ويداوون المرضى، ويقتلعون الأضراس"، ثم يضحك مازحاً: "مثل أبو عصام في مسلسل (باب الحارة) السوري".
يرجع أصل العائلة إلى أكراد شمال العراق، والذين قدموا مع القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي إلى فلسطين، واستقر جده الأول في نابلس، وكان يستخدم "كُلّابة" لخلع الأسنان، ومنها جاء اسم العائلة "أبو الكلبات"، ويوضح صالح: "كنت شاهداً على قيام جدي بكل تلك الأمور معاً، لكن والدي، وأنا وابني من بعده، تخصصنا في الختان".
ولد الحاج طاهر في العام الذي اُحتلت فيه فلسطين قبل اثنتين وسبعين سنة، ويعود بالذاكرة إلى عام 1975، حين ختن أول طفل من دون مساعدة أبيه، والذي ترك المحل يومها للمشاركة في جنازة خاله. يقول: "دخل رجل وزوجته، ومعهما مولود جديد يرغبون في ختانه، انتظروا والدي، لكنه تأخر، فختنت أنا الطفل. أمسكت الملزمة الصغيرة، ووضعت العضو الذكري للطفل عليها بعد أن ثبته والده، وبشفرة مخصصة قطعت (القلفة)، وهي الزائدة اللحمية التي يتم إزالتها خلال عملية الختان، وأظهرت (الحشفة)، وهي رأس العضو الذكري، ثم طهرت الجرح، ووضعت قطعة قماش عليه، وقلت لهم (مبروك)، فأطلقت الأم زغرودة امتزجت ببكاء الطفل".
يطلب المطهر من زبائنه المكوث لوقت قصير في محله للاطمئنان على الطفل، والتأكد من عدم حدوث نزيف، خلال تلك الفترة عادة ما تقوم الأم بإرضاع الطفل، وغالباً ما ينام بين يديها، ثم يغادرون بعد التأكد من سلامة عملية الختان.
ويعد الختان عملية دقيقة، وهي تحتاج إلى أعصاب هادئة. يقول الحاج طاهر أبو الكلبات: "أنت تتعامل مع طفل صغير، ومع عائلة تكون غالباً متوترة من الخوف عليه، وأي خطأ في عملية الختان قد يؤثر على الجهاز البولي، وقد يترك أثراً على الحياة الجنسية في المستقبل، والحمد لله، طوال هذه العقود التي عملت فيها، تكللت كل عمليات الختان التي أجريتها بالنجاح".
ويذكر الحاج صالح فوائد الختان، مستدلاً بحديث الرسول محمد، الذي يقول "خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الظفر، ونتف الإبط"، مشيرًا إلى أنه يدعو الأهل عادة لعدم إظهار الفرحة بذلك امتثالاً لطلب الرسول بإخفاء الختان، "خاصة إن كانت هناك سيدات قريبات للطفل لا ينجبن".

وكما يأتي الزبائن إلى محله، لا يرفض المطهر التقليدي الذهاب للبيوت، إذ يأتي إليه والد الطفل أو جده، ويبلغه بأنهم يريدون ختان طفل في البيت، فيلبي الدعوة.
محمود النجار (46 سنة) رزقه الله بخمسة ذكور، آخرهم قبل نحو عشرة أيام، وقد ختنوا جميعاً على يد المطهر الحاج طاهر، يوضح النجار لـ"العربي الجديد"، أنه وأشقاءه الثلاثة وأولادهم الذكور جميعاً ختنوا عند المطهر الشعبي، وجرت العملية في البيت، ولم يسمع من قبل أن أحداً من أقاربه طهّر ابنه لدى طبيب في عيادته، ويقول: "العملية بسيطة وسريعة ومتقنة، وجميع أبنائي بخير، هذه مهنة تقليدية قد تندثر، وعلينا أن نحافظ عليها. احتفلنا بختان ابني الأكبر، لكن بعدها كانت تمر مناسبة الختان بهدوء".
لكن الحاج طاهر يروي أن بعض النسوة، لا سيما كبار السن، لازلن يرددن الأهازيج بعد ختان الأطفال، وتزيد الفرحة بشكل أكبر عندما يكون ميلاد الطفل بعد سنوات من عدم الإنجاب، ويؤكد أنه من بين الذكريات التي لا تغيب عنه، عندما ختن أكثر من عشرين ذكراً في يوم واحد.
يقول: "عندما نذهب إلى القرى البعيدة، يجهز أهلها كل الذكور حديثي الولادة للختان، إما في أول بيت أدخله، أو أتنقل من بيت إلى آخر، ومن الغرائب التي عشتها ختان الكبار، فبعض العائلات تؤخر ختان أطفالها، وقد قمت بختان فتية، وبعض الرجال، وأكبرهم كان في أواسط الستين من عمره، وفي حالة الكبار، يكون الأمر أصعب من ختان حديثي الولادة، أحقنهم بمخدر، ثم أستكمل الإجراءات ذاتها، وأجتهد أن لا أستعين بأحد، فالأمر حساس ومخجل، لكن في أحيانٍ أخرى أضطر للطلب من رجال أشداء العمل على التثبيت تحسباً من حركة مفاجئة قد تلحق ضرراً، او تؤدي إلى نزيف".

يتواصل الإقبال على المطهر التقليدي في نابلس (العربي الجديد)
يتواصل الإقبال على المطهر التقليدي في نابلس (العربي الجديد)

ختن الحاج طاهر رجلاً تايلاندياً أشهر إسلامه في نابلس، قبل أكثر من عقدين من الزمان، ويوضح: "أحضره إلى محلي شبان لختانه بعد أن نطق الشهادتين، فطلبت منهم أن يأخذوه إلى الحمام الشعبي في البلدة القديمة، وأن يقوم هناك بحلق شعر العانة، ولما عاد، حقنته بمخدر، وختنته".
ليس المسلمون وحدهم من يختنون ذكورهم، فالطائفة السامرية التي تعد أصغر طائفة دينية في العالم، وتعيش على قمة جبل جرزيم في نابلس، تختن ذكورها في اليوم السابع بعد الميلاد. ويقول طاهر: "ختنت عشرات الذكور السامريين، وكذلك بعض المسيحيين، من نابلس وغيرها، وهم يدركون أهمية الختان في تقوية الجهاز التناسلي، وفوائده الصحية والجسدية".
وكما تعلم من أبيه، نقل المهنة إلى ابنه شريف، والذي بات مطهراً رسمياً في عام 2006، ويقول لـ"العربي الجديد": "أفخر بمهنة أبي وأجدادي التي أتقنتها، وسأعلمها لأحد أولادي، إذ ينوي أحدهم دراسة التمريض ليتمكن من خياطة الجروح، فهذا الشيء الوحيد الذي لا أقوم به أنا أو والدي، وهو ضروري إن حدث جرح خلال الختان".
ويضيف أن "أطباء الأطفال يلجؤون إلينا أحياناً لختان أطفالهم، وبعضهم يرسل من يريد ختان طفل إلينا، وفي عدة مرات صححنا عمليات ختان خاطئة قام بها أطباء".
يختن طبيب الأطفال، أكرم سعادة، الذكور بالطرق الحديثة، ويقول لـ"العربي الجديد": "الختان التقليدي لا غبار عليه، لكن الختان الطبي أكثر أماناً، وأقل ألماً. في الختان الشعبي يستخدمون الكاوي الكهربائي لقص الجلد، لكننا نستخدم الربط بالحلقة البلاستيكية، وهي أيضاً تعطي شكلاً تجميلياً أفضل، واحتمالات حدوث مضاعفات تكاد تكون معدومة".
يضيف سعادة: "بشكل عام، يميل الناس إلى الأساليب المتوارثة، لكن من جرب ختان طفله بالطرق الجديدة يدرك الفرق، وأنا أرفض ختان أي ذكر يزيد عمره عن أربعة أشهر، كون ذلك يتطلب تدخلاً جراحياً".
ورغم تمسك البعض بمهنة المطهر التقليدي، لكن وزارة الصحة الفلسطينية تؤكد أنه لا يوجد ترخيص لهم، ولا يسمح لهم بالعمل في ظل التطور الطبي الحاصل، ويؤكد مدير عام الطب الخاص في وزارة الصحة، عبد الله الأحمد، لـ"العربي الجديد"، أن "هناك من يمارس تلك المهمة تحت طائلة المسؤولية"، مبدياً استغرابه من وجود مطهرين تقليديين حتى الآن.
يوضح الأحمد: "هذا إجراء طبي، والأصل أن يقوم به جراح، أو أخصائي مسالك بولية، أو طبيب عام متمرس، فهؤلاء لديهم القدرة على اكتشاف أمراض لدى الطفل، مثل تخثر الدم، ولا يمكن للمطهر التقليدي أن يكتشفها".