اللاجئون في أوروبا... مواجهة الجائحة في الصفوف الأمامية

20 يونيو 2021
لا تردّد في أداء المهام (مادس كلاوس راسموسن/ فرانس برس)
+ الخط -

 

منذ خريف عام 2015، تعيش القارة الأوروبية على وقع تغيّرات كبيرة في سياسات اللجوء والهجرة. وقد تركّزت المشاغل الأوروبية منذ وصول أكثر من مليون مهاجر عبر طريق البلقان، على عملية الدمج ومحاولة إيجاد سياسات مشتركة في سياق متواصل حتى اليوم تحت مسمّى "فرز اللاجئين"، علماً أنّ نصيب ألمانيا وكذلك السويد كان الأكبر. وقضية الفرز بين مستحقي اللجوء، بحسب ما تعرّفه المعاهدات الدولية للجوء السياسي، تطاول هؤلاء الوافدين بحثاً عن حماية مؤقتة نتيجة ظروف عامة في بلادهم وآخرون ترى بعض الدول الأوروبية أنّهم غير مستحقين للإقامة. وعلى وقع السجالات الأوروبية الداخلية بين دول أعضاء الاتحاد الأوروبي، باتت القارة تنتهج سياسات أكثر تشدداً مع الوافدين إليها برّاً وبحراً، من خلال الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل "فرونتكس" وكذلك من خلال اتفاقيات أوروبية جعلت اللجوء إلى بعض الدول أمراً غير مرغوب فيه.

من بين نحو 26 مليون لاجئ حول العالم (إلى جانب نحو أربعة ملايين طالب لجوء)، كان نصيب أوروبا والدول المتقدّمة منهم 14 في المائة، وفقاً لأرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والاتحاد الأوروبي. وبحسب ما تفيد البيانات الأوروبية، فإنّ الأعوام التي تلت "أزمة اللاجئين" شهدت انخفاضاً في أعداد الوافدين إلى أوروبا. وقد سجّل عام 2020، في أوج أزمة كورونا، انخفاضاً تجاوز متوسطه 50 في المائة من بين جنسيات تُعَدّ من الأكثر وصولاً إلى القارة طلباً للجوء. واستقبلت البلدان الأوروبية في العام الماضي نحو 390 ألف طلب لجوء (من بين تلك الطلبات عدد يعود إلى الذين لم يصلوا إليها برّاً) وهو رقم أقلّ بنسبة 33 في المائة مقارنة بعام 2019 وبنحو النصف مقارنة بعام 2018. ومن بين أكثر الجنسيات تراجعاً في طلب اللجوء، العراقيون بنسبة 55 في المائة والسوريون بنسبة 52 في المائة، مع بقاء الأفغان في مقدّمة الباحثين عن لجوء في الاتحاد الأوروبي.

في المجمل، سجّلت دول الاتحاد الأوروبي في خلال العام الماضي وهذا العام أدنى مستوى للمهاجرين الواصلين في خلال ستّة أعوام، وفقاً للموقع الرسمي للاتحاد الأوروبي. ويُعزى ذلك ليس إلى انتفاء حاجة الناس إلى اللجوء بقدر ما هو تشدّد أوروبي في حماية الحدود ومسارات وصول هؤلاء وصرامة القوانين كما تفعل الدنمارك على سبيل المثال. وفي مقابل تراجع عام في نسبة الواصلين إلى أوروبا في خلال العام الماضي، فقد شهدت إسبانيا استثناءً مع زيادة ملحوظة في أعداد الواصلين عبر القوارب أو عبر الحدود من الشمال المغربي. كذلك سجّلت أميركا اللاتينية ارتفاعاً في طلبات اللجوء في خلال العامَين الماضيَين، خصوصاً في بيرو وكولومبيا، معظمها من فنزويلا.

لا يعني تراجع أرقام الواصلين إلى أوروبا عبر مسار البلقان الذي سلكه المهاجرون بمعظمهم ما بين عامَي 2014 و2015، والمقدرّين بنحو مليون شخص، توقّف محاولات الإبحار في البحر الأبيض المتوسط. فقد سجّل عام 2020 زيادة بنسبة 154 في المائة في أعداد الواصلين إلى مالطا وإيطاليا (ما بين يناير/ كانون الثاني ونوفمبر/ تشرين الثاني)، بواقع 34 ألفاً في مقابل 115 ألفاً في عام 2019، علماً أنّ الرقم ارتفع إلى 35 ألفاً في جزر الكناري الإسبانية أي بزيادة نسبتها 46 في المائة عن عام عام 2019. يُذكر أنّ عدد الوفيات في البحر الأبيض المتوسط بلغ 1754 في تلك الفترة.

الصورة
ممرض في مستشفى في الدنمارك (أولافور شتاينار غستسون/ فرانس برس)
(أولافور شتاينار غيستسون/ فرانس برس)

كان عام 2015 مفصلياً لجهة تغيّر المزاج العام في الشارع الأوروبي نحو السلبية إزاء قضايا اللجوء، إذ اختلط الحقيقي بالزائف لجهة الأرقام وأسباب اللجوء. فقد سرت شائعات عن أنّ الوافدين يريدون الاستفادة من نظام الرعاية في دول الأوروبيين. وكان من الممكن ملاحظة هذا التغيّر عندما راحت أزمة اللاجئين تأخذ حيّزاً في تفكير الأوروبيين وأظهر نظام اللجوء والهجرة عيوباً كثيرة وخلافات أوروبية نتيجة الأعداد الضخمة التي لم يشهد تدفّقها منذ الحرب العالمية الثانية. وهو ما عبّر عنه نحو 72 في المائة من الأوروبيين في عام 2018، وفقاً لبيانات مسوحات "يوروباروميتر"، مطالبين دولهم باتخاذ إجراءات إضافية للتعامل مع الوضع. وأظهر مسح أُعدّ في عام 2019 أنّ الهجرة كانت خامس قضية على قائمة القضايا الأكثر أهمية بالنسبة إلى الناخبين الأوروبيين في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو/ أيار من ذلك العام، بواقع 34 في المائة، إلى جانب المناخ والاقتصاد وحقوق الإنسان والديمقراطية ومستقبل الاتحاد الأوروبي.

في أثناء جائحة كورونا، ازداد الحديث الأوروبي عن مساهمة اللاجئين (إلى جانب مواطنين من أصول مهاجرة غير أوروبية يقدَّرون بنحو 38 مليون شخص أي نحو ثمانية في المائة من سكان دول الاتحاد) في قطاعات الرعاية والخدمات. هؤلاء وُجدوا في "الصفوف الأمامية" لمواجهة الجائحة. وأفادت تقارير أخيرة للاتحاد الأوروبي بأنّ المقيمين والمواطنين من أصول مهاجرة "يؤدّون درواً رئيساً في الاقتصاد والمجتمع الأوروبيَّين". وذكر تقرير للمفوضية الأوروبية صدر في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أنّ أكثر من ربع هؤلاء هم على مستوى عال من التعليم "طموحون ومحفّزون لكنّهم بمعظمهم غير قادرين على استخدام مهاراتهم". ومن بين هؤلاء، وجد تقرير المفوضية أنّ 40 في المائة مؤهّلون للعمل الذي يقومون به، "وهذا يعني أنّه لا يسعنا تضييع تلك الإمكانية، على الرغم من أنّ خمسهم تقريباً لم يتخطّوا تعليمهم الابتدائي ويحتاجون إلى مزيد من الدعم".

وفي خلال استقبال نحو 1.8 مليون مهاجر ما بين عامَي 2014 و2016، عانت أوروبا من غياب سياسات هجرة موحّدة، بحسب ما ذكرنا آنفاً. وأدّى ذلك إلى أجواء سلبية رافقت استقبال هؤلاء في القارة، خصوصاً في مجموعة دول الشمال وألمانيا. وقد أثّرت الحملات الدعائية التي انطلقت مع ازدحام مئات الآلاف على طريق البلقان (في أواخر صيف 2015) على الأجواء العامة لاستقبالهم. وعلى الرغم من مساعي وجهود مجالس اللاجئين ومنظمات وأحزاب يسارية، فقد أثّر سلوك بعض اللاجئين السلبي في مجال الاندماج والالتحاق بسوق العمل على الأجواء العامة المرافقة لتنفيذ برامج الدمج. كذلك تأثّر الوضع النفسي لبعض الأسر التي تشتّت شملها، كما في حالة لاجئي الدنمارك الذين وجدوا أنفسهم أمام قوانين مشددة في ما يتعلق بقوانين لمّ شمل الأسر (بين الأزواج).

وعلى الرغم ممّا سجّله عدد من بلدان اللجوء في أوروبا من قصص نجاحات فردية، إذ تبرز نجاح سوريين وسوريات في الدراسة والتحصيل العلمي وافتتاح مشاريع تجارية في المدن الأوروبية، فإنّ بيانات أوروبية ما زالت تشير إلى تعثّر اللاجئين بمعظمهم في الالتحاق بسوق العمل الأوروبي، كما هي الحال في السويد والدنمارك وإلى حدّ ما في ألمانيا. ولاحظت تقارير المفوضية الأوروبية أنّه في ضوء "تأدية المهاجرين دوراً رئيساً في الاقتصاد والمجتمع، وهو ما بيّنته أزمة كورونا من خلال انخراطهم في معالجة الأزمة كعاملين في الخدمات الأساسية، من بينهم الأطباء والممرضات الذين تعرّض كثيرون منهم للإصابة، فإنّ الاتحاد في حاجة إلى مساهمة الجميع في تعافي اقتصاداتنا ومرونتها في أعقاب الجائحة". 

الصورة
طبيب في مستشفى في السويد (جوناثان ناكستراند/ فرانس برس)
(جوناثان ناكستراند/ فرانس برس)

في الواقع، إلى جانب تسجيل المفوضية الأوروبية مصاعب كثيرة تواجه الوافدين الجدد إلى القارة، خصوصاً في الدول التي شهدت تدفّقاً غير مسيطر عليه، لا سيّما في مجال الدمج وتقبّل السوق المهارات والعمال غير المهرة من أصول غير أوروبية، في وقت ينتشر فيه التمييز في بعض المجتمعات الأوروبية الشمالية بناءً على الأصل العرقي، فإنّ تعديلات الأنظمة الاجتماعية خصوصاً ما يُطلق عليه "الإعانة الشهرية" في بعض الدول حاولت دفع الناس إلى العمل في خلال الأعوام القليلة الماضية. وبات لاجئون في دول اسكندنافية غير قادرين على الحصول على مساعدات إلا لسدّ الرمق، مع شروط ساعات عمل وتسجيل في مكاتب التوظيف ليتمكّن الشخص (الأسرة) من الحصول على تمديد للإقامة وعلى لمّ شمل وإعانة.

وعانى نظام الدمج الأوروبي من خلل لسنوات طويلة، وهو ما ردّه الاتحاد الأوروبي إلى "غياب استراتيجية أوروبية موحّدة". وعلى الرغم من ذلك، أُدخلت إصلاحات على مسارات الدمج الفعّال، خصوصاً لجهة تعلّم اللغات وقبول ما يُعرض في سوق العمل للتدرّب واكتساب مهارات، بيد أنّ قابلية بعض الفئات اللاجئة (بواقع النصف تقريباً في السويد والدنمارك على أقلّ تقدير) للانخراط في العمل المعروض ليست كبيرة، إذ "ليس بمستوى لائق". وتثير ردود أفعال بعض اللاجئين إزاء ما يُعرض عليهم سجالاً في بعض المجتمعات، وهو ما يستغلّه تيار يميني شعبوي يحرّض بقوة على عموم المواطنين من أصول غير أوروبية. وقد أفادت تقارير في استوكهولم وكوبنهاغن بأنّ نسبة الملتحقين من اللاجئين في سوق العمل بعد خمسة أعوام من الإقامة لم تكن أكثر من 50 في المائة.

وتعوّل المفوضية الأوروبية في تقاريرها، خصوصاً في الأخير الصادر في نهاية عام 2020، على السياسات المشتركة التي جرى تبنّيها لتسريع وتفعيل دمج مئات الآلاف ممّن يجدون أنفسهم مجرّد مقيمين من دون مشاركة في المجتمعات. وعليه، ترى المفوضية الأوروبية أنّ عملية الدمج "ليست فقط واجباً أخلاقياً إنّما هو واجب اقتصادي كذلك لتكثيف العمل من أجل اندماج أفضل، مثلما توضح الدراسات المتخصصة". تضيف المفوضية أنّ "الاندماج في سوق العمل يمكن أن يوّلد مكاسب اقتصادية كبيرة، ومساهمة في خطط الرواتب التقاعدية الوطنية والرفاهية الوطنية بشكل عام". ورأت أنّ الاتفاق الأوروبي الذي جرى تبنّيه في نهاية عام 2020 حول اللجوء والدمج في القارة (ميثاق الهجرة) سوف يوفّر فرصة ويصير حجر زاوية في نظام إدارة اللجوء والهجرة "من خلال ضمان إمكانية مشاركة كلّ الأفراد الذين يحقّ لهم البقاء في الاتحاد الأوروبي، في مجتمعاتنا بشكل كامل". وتضع أوروبا خطة عملها لدمج اللاجئين بشكل أفضل مستقبلاً، خصوصاً بعدما انتهجت سياسة أقلّ قابلية لاستقبال مزيد منهم مثلما حدث في عامَي 2015 و2016، مع السعي إلى التركيز أكثر على الذين يقيمون في مجتمعاتها، على أساس أنّ لهؤلاء دوراً مستقبلياً، إذا أخذنا كذلك بعين الاعتبار تراجع نسب الخصوبة وتزايد الشيخوخة في المجتمعات الأوروبية. ولا يقتصر الدور المستقبلي الذي تعوّل عليه المفوضية الأوروبية على البعد الداخلي، بل ترى أنّ وجود هؤلاء اللاجئين سوف يعزّز فرص الحوار مع الدول الأصلية في إطار سياسة أوروبا الخارجية، مثلما "يمكّنهم من تأدية دور حاسم في دمج الوافدين حديثاً إلى المجتمعات المضيفة".

وراجعت أوروبا سياساتها المنتهجة منذ عام 2016، في إطار جماعي لسياسة دمج أفضل تولي أهمية لما تطلق عليه "استقبال ودمج مبكر ودمج طويل الأجل". وتستند الخطط الأوروبية إلى "وحدة وتماسك المجتمعات، وإيجاد الاستجابة المناسبة لتلك الخطة من منظور وطني. ويعتمد ذلك على التعليم والتدريب المهني والتوظيف والمشاركة النشطة والاندماج في مجتمعات الاستقبال، من خلال تعزيز عملية الرصد والتنسيق والتمويل".

المساهمون