الداخل إلى حاصبيا، جنوبيَّ لبنان، لا يلمح دليلاً على أنّ هناك قلعة موغلة في القدم فيها، باستثناء لوحة خجولة إلى جانب الطريق خُطّت عليها أسماء الأماكن البارزة في البلدة
قبل أمتار من سوق بلدة حاصبيا، جنوبيَّ لبنان، يبرز بناء أثري لا يتجاوز ارتفاعه عشرين متراً، فيما حدوده المحيطة تصل إلى نحو 220 متراً، فيه العديد من القناطر والشبابيك الأثرية. لدى سؤال أيٍّ من أبناء البلدة، وهي مركز قضاء حاصبيا حالياً، وكانت قديماً عاصمة منطقة وادي التيم، عن هذا المكان، يجيب على الفور بأنّها السراي أو القلعة الشهابية.
مدخل القلعة الرئيسي الذي كان الفرسان يدخلونه قديماً بأحصنتهم، مقفل، والسبب الخوف من العابثين، بحسب الأميرة عدلة شهاب، ابنة الأمير مفيد شهاب الذي شارف على التسعين، وهو واحد من بين ثلاثة أشقاء ما زالوا قاطنين وصامدين في القلعة حتى اليوم، والآخران هما الأميران منذر وعادل (تحفظ السجلات المدنية في لبنان لأبناء وبنات عدد من الأسر اللبنانية التاريخية ألقابهم المتوارثة).
هذا المدخل هو كناية عن قنطرة لها بوابة خشبية قديمة الأثر، تعلوها لوحة نُقش عليها: "مما عُمل برسم سيدي ومولاي الأمير علي الشهابي وذلك سنة 1009 هجرية". كذلك، إلى جانب القنطرة من الأعلى نحت لأسدين متقابلين مقيدين بالسلاسل وأمامهما أرنبان طليقان، وذلك دليل على العدالة الاجتماعية، بحسب الأميرة عدلة. لكنّ المدخل المعتمد حالياً كناية عن باب صغير يفرض على الزائر إحناء رأسه قليلاً ليدخل، تليه واحدة من أعلى قناطر القلاع في الشرق الأوسط، إذ يبلغ ارتفاعها 32 متراً، ومن بعدها باحة فسيحة رصفت أرضها بالحجارة الصخرية التي نبت العشب حولها، باستثناء إحدى زوايا القلعة المزروعة بالزهور وأشجار الزينة، كدليل على أنّ هناك نبض حياة ما زال في القلعة، إذ يقطن فيها الأميران مفيد ومنذر، وذلك في غرف صغيرة نسبياً تعلوها العِقَد والحجارة الصخرية التي تفصل بينها، كما تقول شهاب لـ"العربي الجديد" خلال جولة في مسكن والدها وما فيه من رسوم، بالإضافة إلى لوحة لشجرة العائلة الشهابية التي حكمت لفترات طويلة.
أقسام عدة في القلعة مقفلة، لأنّ أصحابها مغتربون، كذلك فإنّ هناك شقوقاً وتصدعات في الجدران، فيما بعض الأشواك غطت مداخل بعض الأقبية والنوافذ نتيجة النسيان والإهمال من الجهات المعنية في الدولة اللبنانية، ولا سيما مديرية الآثار، التابعة لوزارة الثقافة، وهي المعنية الأولى بحماية الإرث التاريخي والعمراني.
القلعة عسكرية في الأساس، استفادت من موقعها المطلّ على مختلف القرى المحيطة بحاصبيا، وكذلك على نهر الحاصباني وسوق الخان الأثري الذي كان محطة للتجار الآتين من بلاد الشام نحو فلسطين، وبالعكس. في جدرانها فتحات كانت تستخدم لرمي السهام. وحتى زمن قريب، كانت تعجّ بقاطنيها من العائلات الشهابية، صغاراً وكباراً، كما يؤكد الأمير منذر لـ"العربي الجديد". لكنّ قلعة حاصبيا أو السراي الشهابية هي اليوم أطلال مهملة ومنسية. الأمير منذر لم يغادر السراي منذ ولادته فيها عام 1933، على الرغم من المآسي والحروب التي مرّت بها المنطقة، ولا سيما الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان بين عامي 1978 و2000. يحفظ تاريخ القلعة ويقول: "كانت رومانية، لكنّها في الأصل كانت مركزاً لعبادة إله الكنعانيين، وكان فيها تمثال للإله بعل جاد. مرّ بها الرومان ثم الصليبيون، وأخذها منهم الشهابيون. وفي عهد ابن العائلة الشهابية، رئيس الجمهورية فؤاد شهاب، بين عامي 1958 و1964، صنفتها مديرية الآثار، التي استملكت سهماً عن كلّ عقار مملوك من العائلات التي ورثت هذه السرايا، قلعة أثرية، لكن مع الأسف، لم يغير التصنيف شيئاً من وضع القلعة المزري، فبقيت مهملة ومهددة، علماً أنّها من أهم الأماكن الأثرية في الجنوب. لذلك، نناشد الدولة الاهتمام بهذا المعلم، لأنّ هناك الكثير من أقسام القلعة قد تتداعى وتنهار".
الأمير منذر يستقبل زائريه، تكريماً لهم، في مكان داخل القلعة يسمّى "الفستقية"، وهو الذي كان قاعة الاستقبال في عزّ السلطة الشهابية بوادي التيم. تعلو القاعة عِقَد، وفي وسطها حوض رخامي ونافورة مياه، ومقاعدها من الحجر، وهناك نافذتان تطلان على مسجد حاصبيا الأثري، الذي يعتبر ثاني أقدم مسجد في لبنان. يشرح لـ"العربي الجديد" بالتفصيل تاريخ القلعة ويقول: "هي في الأساس قلعة رومانية تضم ثلاث طبقات تحت الأرض، كانت مهدمة ثم أعيد بناؤها على أنقاض القلعة الرومانية، واتخذ منها الصليبيون مركزاً عسكرياً لهم بقيادة الكونت أورا دو بوربون، إلى أن انتزعها منه الأمير منقذ الشهابي بعد معركة سوق الخان عام 1171، وتمركز الشهابيون فيها. وفي عام 1860 هدمت الطبقة العلوية، لكنّ الشهابيين أعادوا بناءها، ثم نقلوا الحجارة من الطبقتين السفليتين وبنوا الطبقة الثالثة من القلعة، وفيها قنطرة تؤكد ذلك، إذ نحتت على حجارتها رموز دينية قديمة جداً، كذلك فإنّ في هذه الطبقة قاعات فسيحة ونوافير مياه". يضيف الأمير منذر: "لم يبقَ في القلعة سوى أنا ومفيد وعادل، فيما البقية هاجروا إلى بيروت وبلاد الاغتراب، والبعض منهم يأتي بين الحين والآخر".
الأميرة عدلة تتحدث بحنين عن هذه القلعة التي ترعرعت بين جنباتها قبل أن تتزوج وتنتقل للعيش مع زوجها في طرابلس، شماليّ لبنان، مؤكدة أنّها تتحيّن الفرص لزيارتها بين الحين والآخر وتعريف أولادها بهذا المعلم الأثري والتراثي والتاريخي الذي جمع العائلة الشهابية على مدى قرون من الزمن. وتملأ الحسرة قلبها لما آلت إليه أحوال القلعة، التي هجرها أهلها بحثاً عن العيش الكريم، بسبب إهمال الدولة وتقصيرها: "هذا القسم الذي يقطن فيه والدي كان قد رمّمه بنفسه وعلى نفقته، ونحن نفتخر بتاريخنا وتراثنا، إذ بالمال يمكن شراء كلّ القصور في العالم، لكن لا يمكن شراء التراث والتاريخ، وكلّ حجر في هذه القلعة له حكاية ورواية، وأبواب القلعة كانت وستبقى مفتوحة للجميع بالأفراح والأتراح، بالرغم من الإهمال والتقصير من الدولة، فنحن نورث أبناءنا تاريخاً".
بدورها، تقول ابنتها، مها تكريتي، لـ"العربي الجديد": "نحن محظوظون لكوننا أحفاد الأمير مفيد الذي علّمنا حبّ لبنان وحبّ هذه السراي التي هي تاريخنا. وهذه السراي - القلعة، تعني لي الكثير"، مؤكدة استمرارهم بالحفاظ على هذا الإرث جيلاً بعد جيل.
من جهته، يقول الأستاذ الجامعي والباحث في الشؤون الحضارية والديانات القديمة والميثولوجيا، الدكتور نبيل أبو نقول، لـ"العربي الجديد" عن تاريخ القلعة وظروفها، قائلاً: "السراي الأثرية بنيت على مراحل عدة، بدءاً من الفينيقيين إلى الرومان ثم الصليبيين الذين كانت لهم اليد الطولى في ما نشهده من بناء حالي، وفي أيام المماليك طرد الأمير منقذ الشهابي الصليبيين خلال معركة سوق الخان، وأصبحت القلعة ملكاً للشهابيين، وهم يتوارثونها جيلاً بعد جيل. وكما ترون، فإنّها بناء تراثي وحضاري وتاريخي، وهذه القنطرة خلفي أعلى قنطرة في الشرق. صحيح أنّ القلعة ملك خاص، لكنّ لمديرية الآثار أسهماً فيها، ومن المفترض بالمديرية الاهتمام أكثر بالقلعة، لأنّها وجه منطقة حاصبيا، هذا الوجه الثقافي والتراثي والحضاري يجب الإضاءة عليه أكثر". يضيف أبو نقول: "لمنطقة حاصبيا وجه سياحي تراثي وتاريخي، وهذه القلعة ركن من أركانها. بمجرد ترميم القلعة وتأهيلها والدعاية لها ستنشط الحركة السياحية باتجاهها. لدينا حركة سياحية في منطقة حاصبيا، لكن علينا إبراز كلّ هذه المعالم بشكل أفضل لجذب الزائرين المهتمين بالسياحة الدينية والتراثية والتاريخية، خصوصاً أنّ هذه القلعة تراث فينيقي وروماني وصليبي ومملوكي وعربي شهابي، إذ لديها كلّ الوجوه التراثية والحضارية والتاريخية".