القصف يحرم سكان شرقي خانيونس النوم... وأماكن الإيواء شحيحة

31 اغسطس 2024
أفراد عائلة فلسطينية داخل خيمة نزوح في خانيونس (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
+ الخط -

تنحصر آمال أكثر من مليونين من سكان قطاع غزة حالياً في أن ينتهي العدوان الإسرائيلي، وأن يعودوا إلى ممارسة حياتهم العادية كما هو حال كل البشر، لكن الكثيرين منهم يشككون في إمكانية ذلك.

تتشابه قصص معاناة الفلسطينيين في قطاع غزة منذ بداية العدوان الإسرائيلي المتواصل رغم تباين المناطق التي يعيشون فيها. قد تعيش منطقة أوضاعاً هادئة لعدة أيام، لكن سرعان ما يعود التوتر والقلق إليها مع انتقال الهدوء إلى منطقة أخرى، قبل أن يعود التوتر مجدداً. 
ومنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يكد يمر يوم على الأهالي يشبه الذي سبقه، من حيث الشعور المتنامي بالقلق في ظل غياب أي أفق لإنهاء الحرب وانتهاء المأساة، مع غياب الدعم اللازم لتقليص معاناتهم الأطول في تاريخ الحروب الإسرائيلية على القطاع.
كسر صوت انفجارين متتاليين محاولة إيمان الزير احتساء كوب شاي بهدوء مع إطلالة شمس الصباح في بلدة عبسان الجديدة شرق مدينة خانيونس في جنوب قطاع غزة. كانت تحاول استرجاع ذكرياتها عندما كانت معتادة هذه الجلسة قبل العدوان الإسرائيلي، لكن الغبار الناتج من الانفجارين ملأ سماء المنطقة، وتلته أصوات صراخ وبكاء أطفال ونساء قادمة من الخيام المتناثرة وبقايا البيوت المهدمة المجاورة.

يعاني أهالي غزة من غياب الدعم اللازم لتقليص معاناتهم المتفاقمة

للحظات، احتارت الزير بين محاولة تهدئة طفلتها الصغيرة تالا التي كانت ترتجف بينما يتواصل بكائها، أو الذهاب للاطمئنان على سلامة أمها المسنة التي تسكن في خيمة قريبة من خيمتها، خصوصاً أن الجميع كانوا يتوقعون سقوط صاروخ من الطائرة الحربية كما جرت العادة بعد سماع أصوات الصواريخ التمهيدية التي تطلقها الطائرات من دون طيار، لكن الصاروخ لم يسقط هذه المرة. 
وعائلة الزير واحدة من آلاف العائلات التي عادت إلى السكن في خيام نصبتها بجوار البيوت المهدمة، أو تحت أسقف المنازل شبه المدمرة في شرق مدينة خانيونس، بعد انسحاب قوات جيش الاحتلال من تلك المناطق عقب عملية اجتياح استمرت ثمانية أيام، وهي المرة السادسة التي ينفذ فيها جيش الاحتلال عمليات اجتياح بري في المنطقة. 

نصبا خيمة بسيطة فوق ركام المنزل (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
نصبا خيمة بسيطة فوق ركام المنزل (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)

ويعيش سكان المنطقة مع النازحين إليها يومياتهم بين الخطر والموت في ظل استمرار القصف المدفعي، وإطلاق آليات الاحتلال النار تجاه التجمعات السكنية، مع مواصلة قصف المنازل وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها، ما يخلف مجازر متكررة بحق العائلات.  
ورغم الخوف والمخاطر، تُصر العائلات على البقاء في بلدة عبسان، وتفضل ذلك على النزوح إلى المناطق التي صنفها الاحتلال "آمنة" في غرب خانيونس، بسبب صعوبة حياة النزوح، وعدم توافر أماكن للإيواء، فضلاً عن أزمات المياه والطعام والعلاج وغيرها.
تقول إيمان الزير لـ"العربي الجديد": "أعيش في خيمة بجوار منزلي المتهدم مع أطفالي الأربعة في ظل ظروف حياتية صعبة يغلفها التعب والإحباط والدمار، فضلاً عن المخاوف الكبيرة، خصوصاً في ساعات الليل التي يتزايد فيها القصف وإطلاق النار وتقدم الآليات العسكرية المفاجئ وانتشار الطائرات المسيرة (كواد كابتر). الحياة في مناطق شرقي خانيونس هي متلازمة من المتاعب والرعب، وأنام بنصف عين خوفاً من أي تقدم مفاجئ للآليات الإسرائيلية. البلدة تشهد يومياً مجازر بحق السكان، ويكون القصف بالطائرات والمدفعية في ساعات الليل جنونياً".

تفضل العائلات البقاء على حياة النزوح رغم عدم توافر أماكن إيواء

بدورها، عادت عائلة أبو جامع إلى العيش في خيمة على أنقاض منزلها المدمر عقب انسحاب جيش الاحتلال من خانيونس، في يناير/ كانون الثاني الماضي، ثم نزحت العائلة مجدداً بعد هجوم مفاجئ لجيش الاحتلال على بلدات بني سهيلا وعبسان الكبيرة والزنة والشيخ ناصر في الفترة بين 22 يوليو/ تموز ومطلع آب/ أغسطس الماضي، قبل أن تعود مجدداً إلى محيط منزلها. بعد تسعة أيام من تحمّل المخاطر والمخاوف، قررت العائلة نقل خيمتها من محيط بيتها المدمر بمنطقة الزنة شرقي المدينة إلى غرب خانيونس، نتيجة التوغلات المفاجئة وأوامر الإخلاء التي يكررها جيش الاحتلال. 
تقول العشرينية ولاء أبو جامع لـ "العربي الجديد": "مكثنا في الحي المدمر تسعة أيام عشناها في خيمة إلى جوار منزلنا الذي دمره القصف الإسرائيلي، ثم غادرنا المنطقة بسبب عدم الشعور بالأمان. أصوات القذائف لا تتوقف، وفي كل مرة تسمع صوت الطيران الحربي تشعر بأنك المستهدف. بالكاد كنت أستطيع النوم لساعتين في الليل بسبب الخوف والقلق، وفي بعض الأوقات كنا نرى أناساً لا نعرفهم يتجولون في المنطقة، وفي مرة تفاجأنا بوجود قوات إسرائيلية خاصة في المنزل المقابل".
تضيف: "معاناة التنقل أحد أكثر الأشياء التي تؤرق أهل المنطقة الشرقية، وفي أوقات النزوح تتضاعف أسعار النقل عبر عربات تجرها الحيوانات ووسائل نقل أخرى مثل التوك توك وبعض الشاحنات، ما يجعل غالبية الناس تنزح مشياً على الأقدام". 

لا بديل عن البقاء في المنزل المتهدم (دعاء الباز/الأناضول)
لا سبيل سوى البقاء في المنزل المتهدم (دعاء الباز/الأناضول)

ويصنف الاحتلال المناطق الشرقية من خانيونس "مناطق قتال"، ما يجعل الخوف والقلق شعوراً ملازماً لحياة الناس فيها، خصوصاً بعد التوغل الأخير الذي لم يُعطِ جيش الاحتلال خلاله الناس فرصة لنقل أمتعتهم وأغراضهم، فنزحوا تحت الأحزمة النارية والقصف المدفعي مشياً على الأقدام تاركين كل شيء من خلفهم، والكثير منهم باتوا ليالي التوغل الثماني في العراء بالشوارع وساحات المدارس، وعندما عادوا إلى شرق خانيونس وجدوا الكثير من خيامهم قد احترقت، فضلاً عن تدمير مزيد من المنازل، وتعرض المنطقة لما يشبهونه بأنه "زلزال كبير". 
تحمل علا جمال (25 سنة) من منطقة عبسان الصغيرة، عدة هموم فوق كاهلها، فزوجها سليمان أبو جامع استشهد في 9 يوليو/ تموز الماضي خلال المجزرة الإسرائيلية التي استهدفت مدرسة العودة في البلدة، والتي تحولت إلى مركز إيواء لمئات العائلات النازحة، وخلفت المجزرة العديد من الشهداء، ولديها ثلاثة أطفال هم حلا (6 سنوات) وإلياس (4 سنوات) وسيدرا (3 سنوات)، وهي حالياً في انتظار قدوم مولودها الرابع خلال الشهرين المقبلين، إضافة إلى استشهاد أحد أشقائها وإصابة آخر. 
تعيش الأم الشابة وأطفالها في زاوية داخل صف بمدرسة الإيواء يضم أربعة عائلات أخرى، وتفصل قطعة قماشية بين كل عائلة والأخرى، ما يعني تلاشي الخصوصية، لكن ذلك بالنسبة إليهم أفضل كثيراً من العيش في خيمة.
تقول علا لـ"العربي الجديد": "لدي مشكلات متعددة معقدة، فأنا في مرحلة متقدمة من الحمل، وأصبحت مسؤولة عن إعالة أطفالي الثلاثة، وأدى القصف المدفعي المتكرر إلى مضاعفات نفسية لطفلي إلياس، فلحظة سماعه صوت القصف يهرع إلى أسفل الطاولة، ويظل مختبئاً إلى أن يتوقف القصف، رافضاً الاستجابة لطلبي منه الخروج، والطفلتان تعانيان من حالة تبول لاإرادي من جراء الخوف".

وتضيف بصوت مغلف بالقهر: "نتنقل بين فترة وأخرى من مكان إلى آخر، إما بسبب التوغلات المفاجئة لجيش الاحتلال، وإما لعدم وجود مكان للإيواء، والحياة في المدرسة صعبة بسبب تكرار إطلاق النار والقصف المدفعي المستمر. كنا أفضل حالاً قبل استشهاد زوجي، الذي قضى بينما كان ذاهباً لتعبئة مياه صالحة للشرب لنا، ومحاولة جلب طعام من تكية خيرية على مقربة من المدرسة، وبالتزامن مع وجوده هناك، قصف الاحتلال مجموعة من المواطنين المتجمعين عند باب المدرسة بمجزرة بشعة، وقد شاهد أطفالي والدهم وهو مسجى بدمائه، وهذا أحد أسباب المضاعفات النفسية التي تلاحقهم". 
وقبل أيام عاشت أسرة علا جمال ليلة دامية، إذ استمر القصف المدفعي في تلك الليلة حتى الثانية فجراً بالتزامن مع إطلاق آليات الاحتلال النار في كل الاتجاهات، وقد اخترقت ثلاث رصاصات نوافذ الصف الذي يؤويهم. تقول: "اعتقدنا أنهم يحاصرون المدرسة، فأردت الخروج قبل أن يقتحموها، لكني خشيت استهدافنا، فبقيت محتضنة أطفالي، أحاول تهدئة رعبهم ووقف بكائهم من دون جدوى حتى توقف القصف". 
وتخشى علا كثيراً على جنينها في ظل المعاناة القائمة، وتؤكد: "لا تتوافر الأغذية المناسبة ولا الأدوية والفيتامينات المدعمة، ووزن جنيني في شهره السادس لا يتجاوز كيلوغراماً واحداً، أي نصف الحجم المفترض أن يكون عليه، ولا أملك فعل شيء، فالفواكه والخضراوات نادرة جداً في الأسواق منذ بداية الحرب، وأسعار المتوافر منها باهظة، ولا أستطيع توفير المال لشرائها". 

المساهمون