الفلسطيني عبد الله أبو التين... قصة كفاح "حكيم الكتائب" حتى الشهادة

19 أكتوبر 2022
خلال تشييع جثمان الطبيب أبو التين الذي أصابته رصاصة في رأسه (تويتر)
+ الخط -

ما إن أماط الطبيب مجيد ارشيد اللثام عن وجه المصاب الغارق بدمائه الذي وصل إلى مستشفى "الشهيد خليل سليما" الحكومي بمدينة جنين شماليّ الضفة الغربية، حتى سقط مغشياً عليه من هول الصدمة، فلم يكن الشخص سوى رفيق دربه الطبيب عبد الله أبو التين.
الحادثة التي وقعت صباح الجمعة الماضي، تحوّلت إلى حديث الشارع الفلسطيني برمته. فالمقاوم الذي صارع الأطباء لإنقاذ حياته لأكثر من ثلاث ساعات، كانت إصابته بالغة، بعد أن أطلق عليه قناص رصاصة خلال اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال الإسرائيلي التي اقتحمت صباح ذلك اليوم مخيم جنين شماليّ الضفة الغربية، فأصابته في رأسه.

حمله المواطنون بسرعة إلى المشفى القريب من الموقع، ليصطدم الطاقم الطبي بهويته، وغرقوا في نوبة من البكاء على فقدانهم لزميل طالما كان قريباً من الجميع، وعاصرهم لسنوات طويلة قبل أن ينتقل إلى عمله الجديد مديراً لوحدة التراخيص في وزارة الصحة الفلسطينية، في مقرها العام بمدينة نابلس.


لم يقوَ الطبيب ارشيد لأيام بعد استشهاد أبو التين على الحديث مع "العربي الجديد" عن تلك اللحظات، فكان النحيب يسبق كلماته كلما أراد أن يتحدث، فاعتذر.
ارشيد بعد أن اكتشف أن المصاب هو صديقه أبو التين، تمالك نفسه، واتصل فوراً بصديقهم المشترك الدكتور نجي نزال ليبلغه بالخبر الصادم.
يقول نزال لـ"العربي الجديد": "علاقتنا متينة إلى درجة كبيرة، فنحن في جيل متقارب، ومن المنطقة السكنية ذاتها، وهي جنين، ودرسنا معاً، والتحقنا بالعمل معاً، لذلك كنت أول من أبلغه ارشيد بما جرى مع الشهيد عبد الله".


يسهب نزال في تعداد مناقب أبو التين الذي نال فور الكشف عن هويته ألقاباً تليق بتضحياته، مثل "حكيم الكتائب"، و"الطبيب المشتبك"، و"الدكتور المقاوم"، يقول نزال: "كلها لا توفيه حقه. فقد كان إنساناً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، متواضعاً إلى أبعد الحدود، الشخص الذي يُقسم عليه الجميع، الرجل الذي لا تغيب الابتسامة في كل أحواله عن محيّاه".
وعن جهاده ومقاومته، يقول نزال: "كان صاحب رسالة في كل مكان وُجد فيه، سواء بالرداء الأبيض عندما يعالج المرضى، أو بزيه العسكري وهو يقاوم ويقاتل نصرة لفلسطين".


كان نزال يلاحظ أن منشورات أبو التين على موقع "فيسبوك" تحمل نفَساً ثورياً، "كتب عن مخيم جنين وعن الأيقونة أبو رعد خازم، عن نابلس وأبطالها، عن المسجد الأقصى ومرابطيه، وحيّا غزة في وقوفها نداً لأعتى قوة عسكرية في المنطقة".


ويضيف نزال: "كان عبد الله يتابع الأحداث لحظة بلحظة بكل مكان في الوطن. أخبار الاشتباكات والشهداء والجنازات، لكن لم أعتقد يوماً أنه سيصبح الخبر".
ويشير نزال إلى خصلة عرف بها أبو التين، وهي أنه "كان كتوماً جداً، وما قدرته على إخفاء كونه مقاوماً ميدانياً ومؤسساً لجناح عسكري في جنين إلا خير دليل على هذا، فرغم علاقتنا المتينة لم نلحظ أبداً أن لديه هذا التوجه، لكننا اليوم نفخر به أيما فخر، فقد صدق الله فصدقه الله ونال ما تمنى".
وحاز ارتقاء أبو التين وهو يخوض مواجهة مسلحة غير متكافئة مع الاحتلال على إشادة شعبية فلسطينية غير مسبوقة، وراح الناشطون والمغردون يتسابقون بنشر صورته وهو يحمل بين يديه السلاح، فيما غصت منصات التواصل الاجتماعي بعبارات المديح والثناء عليه.


أما ابن خاله وصديقه المقرب أحمد أبو التين، فيقول لـ"العربي الجديد": "هو ابن خالي ورفيقي، وعمري قريب من عمره، فهو لم يُتمّ الرابعة والأربعين بعد، عاش عبد الله في عالمين مختلفين تماماً دون أن يلحظ ذلك أحد". 
ويتابع أبو التين: "الأول كمسؤول كبير في وزارة الصحة الفلسطينية يذهب إلى عمله مرتدياً بذلة أنيقة بسيارة فارهة، فهو يملك معرضاً لبيع السيارات في جنين، وما إن يعود إلى بيته ويرتاح قليلاً ويطمئن على زوجته أنصار كميل، وهي أيضاً طبيبة، وعلى طفليه، حتى ينخرط في عالمه الآخر الذي لا يعرفه إلا قلة من الناس، وفوجئ الجميع بهذين العالمين".
وبالفعل، ما إن يسدل الليل ستاره، حتى يضع الشهيد عبد الله أبو التين اللثام على وجهه، ويحمل سلاحه على كتفه، وينطلق راشداً إلى مسقط رأسه، حيث ولد في مخيم جنين، قبل أن ينتقل إلى السكن في فترة لاحقة إلى الحي الشرقي من مدينة جنين.
ويستكمل ابن خال الشهيد: "هناك كان عبد الله ينصهر بين المقاومين الأشداء، يشد من أزرهم ويرفع من معنوياتهم ويشاركهم في معاركهم، دون أن يعرفه الكثيرون، وأنا منهم، رغم قربي منه".
وعن هذا العالم، يقول أحد النشطاء الذي طلب عدم الكشف عن اسمه في حديث لـ"العربي الجديد": "لقد اختار الدكتور عبد الله طريقه بإرادته، حتى أقرب الناس إليه لم يكن يعرف أنه سلك هذه الطريق. من يعرفه لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، لذا اليوم أعلن أنه أحد الذين لعبوا دوراً بارزاً في ضخ الدماء من جديد في جسد كتائب شهداء الأقصى الذراع العسكرية لحركة فتح في المخيم، ولم يبخل بماله على المقاومة، ولم يكن يفرق بين فصيل وآخر، بالدماء الزكية التي تسيل لأجل فلسطين وحدها القادرة على توحيده، كما كان يقول دوماً".

ويتابع: "خاض عبد الله اشتباكات مسلحة عنيفة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي عدة مرات، وكان يبلي فيها الدكتور بلاءً حسنا، فهو متمكن من السلاح، ويجيد إطلاق النار، ولديه حسّ أمني عالٍ".
أما أمين سر حركة فتح في جنين، عطا أبو ارميلة، فيقول لـ"العربي الجديد": "كان أبو التين طبيباً مقداماً ومقاتلاً لا تلين له قناة، هو مسؤول ملف المقاومة في حركة فتح في جنين، وكان يحمل في حقيبته أدوية وضمادات ليعالج الجرحى، وسلاحه وعتاده العسكري لمقاومة الاحتلال، لقد كان مقاوماً صلباً، شجاعاً، وبطلاً، ومقاتلاً، شرساً".
ويتابع أبو ارميلة: "ما كان قرار أبو التين بالانخراط في العمل المسلح إلا دفاعاً عن أبناء شعبه، فاستشهد وهو بالفعل يدافع عن ثرى وطنه، مقبلاً غير مدبر".

المساهمون