تلك الليلة، انتظرت كما الكثيرين في القاعة أن يهُلّ علينا شيخٌ هَدّته السّنون وهَدَته بصيرته ليدرك كيف يزيل بفكره وعمل يده ما اتُّفِق على أنّه وصمة على جبين البيئة، بيد أنّ شاباً في مقتبل العمر طويل القامة شقّ طريقه إلى المنصة في شموخٍ يُحدّث عن فعلٍ صالحٍ، هو قرينٌ لهذا الـ"عثمان صالح" صاحب مبادرة إنقاذ الأسود الجائعة. وقد استحقّ جائزة المواطنة البيئية التي يمنحها مركز معتصم بشير نمر للثقافة البيئية في السودان، تشجيعاً للمبادرات المحلية في مجالات نشر الوعي البيئي والمحافظة على الموارد الطبيعية. وقد أفلح القائمون على الجائزة حين اختاروا لها في عام الإنسان والمحيط الحيوي وفي عقد إعادة النظم البيئية، عثمان صالح لهذا العام.
كانت الأسئلة قد قضّت مضجعه... ما ذنب هذه الحيوانات التي تُفصل عن بيئتها، وتوضع في الأقفاص لتصير مادة للترفيه في حديقة صغيرة يتقاطر نحوها البشر، وفي الوقت ذاته تتقاصر فيه خطوات الإنسانية نحوها؟ لماذا تُترك هكذا نهباً للجوع والموت البطيء؟ لماذا هي مقصاة من قائمة الاهتمام اليومي؟ هي أسئلة تدفع إلى التفكير في حلول.
لعلّ من بين ما أحدثته ثورة الشباب السودانية في ديسمبر/كانون الأول 2018، هو هذا التوجّه العام نحو التغيير. وكان لا بدّ من أن تكون البيئة ومكوّناتها هدفاً من أهداف التغيير الإيجابي، ذلك الذي يبدأ بخطوة الإحساس والوعي ثمّ الاهتمام فالتقييم فالمحاولة، وينتهي بتبنّي الأفكار. وكان في أسود حديقة القرشي (الخرطوم) الجائعة ما حرّك إنسانية عثمان صالح وحسّه البيئي العالي، ليطلق صرخته التي شقّت الفضاء الإلكتروني محدثة ما تستحقه من صدى واستجابة. وكالعادة، تداول الشباب القضية على نطاق واسع، وتنادى السودانيون بمختلف مشاربهم للمناصرة، كلٌّ بما يملك. ومن منصّات التواصل الاجتماعي تردّد الصدى، فتناولت "بي بي سي" البريطانية القصة لافتة أنظار العالم، تبعتها "ذي صن" البريطانية و"سي بي إس" الأميركية، فيما أشادت بها "ذي غارديان" البريطانية. وكنّا قد تناولناها هنا في هذه الزاوية، تحت عنوان "إنّهم يقتلون الأسود" في 26 يناير/كانون الثاني 2020. وصارت قضيّة رأي عام.
ومنح عثمان صالح المبادرة من العطاء ما مكّنها من النموّ المتسارع، فمنحه صدى الصوت الدافع إلى التفكير المبدع تطويراً لفكرة بدأت بجمع المال لإطعام الأسود في مقرّها وسط العاصمة، ثمّ البحث عن موئل أكثر اتساعاً وأقرب إلى البيئة الطبيعية التي جاءت منها. فمنحه أحد رجال الأعمال المهتمّين بالأمر قطعة أرضٍ بمساحة 10 فدادين (42 ألف متر مربّع) بمنطقة الباقير إلى جنوب الخرطوم، ليقيم عليها المشروع الذي أسماه "مركز السودان لإنقاذ الحياة البرية". وقد قام في خلال تسعة شهور بتسوير الموقع وتأهيله، وفقاً لمخططات حدائق الحيوان، موظّفاً التبرّعات التي انهالت عليه. واكتمل المشروع بنقل الأسود مع بعض الضباع والنسور وطيور النعام، وغيرها من الحيوانات المهددة بالانقراض. حقاً إنّه فعلٌ صالحٌ.
(متخصص في شؤون البيئة)