تشكّل البلدان وراء الحدود إغراءً للفرنسيين الذين يعيشون بالقرب منها، لإيجاد فرص عملٍ أفضل. يجتازون الحدود كلّ يوم للتوجه إلى عملهم ويعودون في اليوم نفسه إلى فرنسا
تعرف كريستين مدينة جنيف أكثر ممّا تعرف مدناً فرنسية. منذ أكثر من 22 عاماً، تقطع المرأة الفرنسية حدودَ بلدها مع سويسرا مرّتين في اليوم، ذهاباً إلى عملها في جنيف وإياباً منه. تمثّل المدينة السويسرية أكبر المراكز الحضرية قرباً من منطقة بايّي دوجكْس الفرنسية التي تعيش فيها كريستين. وهي، في الوقت نفسه، المركز الاقتصادي الّذي يجذب العدد الأكبر من سكان المنطقة. تقول كريستين، المرأة البالغة من العمر ستين عاماً، لـ"العربي الجديد": "العمل في جنيف أمرٌ طبيعي عندما نولد أو نعيش هنا، على بعد عدة كيلومترات فقط". وتضيف: "درست البستنة في جنيف، وبنيت فيها علاقات اجتماعية. كان من الطبيعيّ أن أعمل فيها، خصوصاً أنّ المدينة، وسويسرا بشكلٍ عام، وافرة بالوظائف ذات الراتب الجيّد جداً، مقارنةً بفرنسا، واليد العاملة السويسرية لا تكفي أبداً لشغل هذه الوظائف". وتروي: "اليوم، تقوم ابنتي بالأمر نفسه. هي تُنجز دراستها الجامعية في جنيف، وستبدأ البحث عن عملٍ هناك، أو ربما في لوزان. لكنّها، بخلافي، تُفكر في البقاء للعيش في سويسرا. أما ابني، فيعمل في أحد المطاعم في جنيف، خلال عطلة الصيف".
كريستين هي واحدة من 400 ألف فرنسيّ يعملون في البلدان المجاورة. وتستقبل سويسرا، وحدها، نحو 190 ألفاً منهم، بحسب دراسة أصدرها المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية في يوليو/ تمّوز الماضي بناء على أرقام تعود إلى 2016. وتشير الدراسة إلى "النمو الكبير" في هذه "الظاهرة الحدودية" في السنوات الأخيرة، لا سيّما بعد قيام فرنسا والدول المجاورة بتنظيم العمل الحدودي في إطار مشترك. وتعدّ سويسرا ولوكسمبورغ وألمانيا أكثر البلدان الحدودية استقطاباً للعمال الفرنسيين، في حين تستقبل بلجيكا وإمارة موناكو عدة عشرات من الآلاف منهم، بينما لا يزيد عدد الذين يقطعون الحدود الإسبانية عن المئات والإيطالية عن العشرات، بسبب حاجز اللغة وضعف الرواتب.
وتأتي وفرة الوظائف ورواتبها المرتفعة، التي تمثّل ضعف أو أحياناً ضعفي الراتب الفرنسي في بلدٍ مثل سويسرا أو مثل لوكمسبورغ، في مقدمة الأسباب التي تدفع بكثيرٍ من الفرنسيين إلى العمل وراء الحدود رغم ما قد يترتب على ذلك من مشاق عدّة. تقول كريستين: "يتقاضى موظفو تنسيق الحدائق في الشركة التي أديرها نحو 4000 يورو (4913 دولاراً أميركياً). وظيفة كهذه، في فرنسا، لا يتجاوز راتبها 1800 يورو (2211 دولاراً)".
وتشرح كريستين الأثر السلبي لخيار العمل في سويسرا على حياتها: "ضحّيت بجزءٍ من حياتي العائلية ثمناً للعمل. عمل الكوادر يستغرق وقتاً طويلاً بشكلٍ عام، وأطول في سويسرا. أعمل أكثر من 9 ساعات في اليوم. أستيقظ باكراً وأغادر المنزل عند السادسة والنصف صباحاً لتجنب الازدحام عند المعبر الحدودي، ولا أعود إلا آخر النهار. كلّ هذا منعني من الاستمتاع بوقتٍ كافٍ مع ولديّ، ومن تخصيص وقتٍ كافٍ لنفسي". كما تشير إلى إحساسها بـ"الضيم" بسبب ضعف الحقوق الاجتماعية للعاملين في سويسرا، مقارنة بفرنسا: "طوال عملي في سويسرا لم أذق طعم الإجازات المدفوعة تعويضاً عن ساعات العمل الطويلة، كما يجري عادة في فرنسا. حتى عندما أنجبت، قبل سنوات طويلة، لم أستطع الحصول على إجازة أمومة كافية ومدفوعة". على الرغم من ذلك، لا تخفي أنّها من "المحظوظين" كونها تستطيع العيش براحة مادية، وتقول: "ساعدني العيش بفرنسا والعمل في سويسرا بتأمين حياتنا وتأمين دراسة ولديّ ومستقبلهما".
وإذا كانت كريستين تحتاج إلى قضاء نصف ساعة بالسيارة للوصول إلى عملها، فإنّ لوك يقضي أكثر من ساعة لبلوغ جنيف، آتياً من مدينة آنسي. ويعلّق الشاب الفرنسي بسخرية: "ساعتان ونصف تقريباً للمواصلات في الأيام العادية، وأكثر من ذلك في أيام الازدحام عند الحدود، كما كانت الحال قبل عدة أسابيع بسبب أزمة كورونا". لم يولد لوك في مكان محاذ للحدود السويسرية، بل في ليون. وقد استقر في آنسي، قبل سنتين، بعد عثوره على عقد عمل في شركة تأمين في جنيف. يعلق: "كنت مستعداً للتضحية بأكثر من أمر، كالبعد عن شبكة علاقاتي الشخصية والمهنية، وقضاء وقت طويل على الطرقات كل يوم. لكنني لم أفكر للحظة بالتضحية بنمط حياتي اليومي والسكن في مدينة صغيرة أقرب إلى جنيف. أحتاج للعيش في مكانٍ يتيح لي الخروج واللقاء بالآخرين وحضور نشاطات ثقافية".
في أيّ حال، فإنّ فكرة البقاء للعيش في جنيف غير واردة لدى لوك، كما هي حال أغلب الفرنسيين الذين يعملون في سويسرا، والذين يتجنبون الإقامة فيها بسبب غلاء السكن والمعيشة. ولا يشمل تجنّب العيش في سويسرا أغلب العاملين الفرنسيين هناك فحسب، بل آلافاً من السويسريين أيضاً. لكنّ هذا لا يمنع الجانب الفرنسي من الحدود مع سويسرا، وكذلك مدينة آنسي، من أن يكونا من أكثر المناطق غلاءً في فرنسا، لاحتضانهما شرائح اجتماعية ذات دخل عالٍ نسبياً.
مشكلتا السكن والمواصلات لا وجود لهما في حياة كامي، التي تعيش في ستراسبورغ الفرنسية وتعمل في مدينة كيل الألمانية. الطريق من منزل الشابة الفرنسية، وسط ستراسبورغ، إلى متجر بيع الألبسة الألماني الذي تعمل فيه، لا يستغرق أكثر من 25 دقيقة، بفضل خطّ ترام يربط بين المدينتين. تقول: "لا أشعر بأنّني أعمل في بلدٍ آخر، رغم أنّ هذا هو الواقع. اعتدت الذهاب إلى كيل أو إلى مدنٍ ألمانية أخرى مع عائلتي للتنزه والتسوّق. لي شقيقان عملا بألمانيا في لحظة ما من حياتهما. وأغلب الزبائن الذين نستقبلهم بالمتجر فرنسيون. لهذا لا أشعر بقطيعة بسبب عملي هناك. يمرّ يومي كما لو كنت في ستراسبورغ، التي اعتدت أيضاً سماع الفرنسية والألمانية فيها". بخلاف كريستين ولوك، اللذين لم يواجها صعوبة لغويّة تُذكر للعمل في جنيف، اضطرت كامي إلى تحسين إتقانها للألمانية قبل العثور على فرصة عملٍ لائقة. وتقول: "كنت قد درست الألمانية في المدرسة، كلغة ثانية، لكنّني لم أكن أجيدها بما يكفي لإجراء مقابلة عمل مثلاً. حضرت دروساً مكثّفة خلال عدّة أشهر، في كيل، لتحسين حظوظي بالعثور على عمل. التمكّن من هذه اللغة مَكسب لشخصٍ مثلي يعيش قرب ألمانيا. البطالة منخفضة هناك وثمّة دائماً خيارات عملٍ، بعكس فرنسا".