منذ إنشاء منظومة المحميّات الطبيعية، ساد اعتقاد في بعض البلدان الأجنبية والعربية بأنّ الرعي مضرّ بالحماية، ولا بدّ من أن يُمنع، مع تناسٍ أنّ الرعي هو وسيلة حياة منذ آلاف السنين، لا بل هو وسيلة تراثية وتقليدية في إدارة الأراضي. ومع هذا التناسي، صدرت قوانين لإنشاء محميّات طبيعية تتضمّن بنداً يمنع الرعي بكلّ أنواعه، كرعي البقر والجمال والخيول والخراف والماعز. وبعد سنوات من المناكفات بين مدراء المحميّات والرعاة، بما في ذلك الكرّ والفر وقطع أسلاك الأسيجة وتحطيم أعمدتها، تبيّن للقائمين على حسن سير المحميّات أنّ الراعي شريك لها في إدارة مكوّناتها. فكيف يكون ذلك؟
في الواقع، بيّنت التجارب السابقة أنّ الرعي الجائر فقط الذي يضرّ بالبيئة، فيما الرعي المعتدل يخدم البيئة ولا يضرّها، ويفيد الحيوانات والمزارع والبيئة بطرق عدّة مثل تحويل مزيد من الأمطار نحو المراعي، إذ تقلّ كمية المياه المتدفّقة إلى الجداول القريبة، بالإضافة إلى المساعدة على تدوير المغذيات وبناء تربة صحية من خلال نمو نباتي قوي وتقليل كمية الأسمدة اللازمة لزراعة الأعلاف المساندة حيث يمارَس الرعي، إلى جانب توزيع الروث على مساحة أوسع بدلاً من تركيزه بالقرب من المجاري المائية وتلويثها.
إضافة إلى ذلك، خلصت دراسة أعدّتها حديثاً دائرة البحوث الزراعية في وزارة الزراعة الأميركية، إلى أنّ عمليات الرعي تخفّض تآكل الرواسب بنسة 80 في المائة وتزيد مستويات عزل الكربون، وتخفّض انبعاثات الأمونيا بنسبة 30 في المائة، الأمر الذي يزيد من إنتاجية الأراضي الرعوية. وتوفّر إدارة المراعي المحسّنة أفضل الظروف لخفض تكاليف الإنتاج. ففي لبنان على سبيل المثال، يفضَّل الرعي المعتدل على إزالة الأعشاب الآلية من أجل زيادة إنتاج الزيتون، لأنّ العشب الطويل ينافس الشجر على الغذاء المتوفّر في التربة فيما العشب القصير الناتج عن الرعي يحفظ رطوبة التربة وحيويّتها ويزوّدها بالمعادن كالنيترات والحديد والفوسفور وغيرها.
ويُعَدّ بعر (مخلفات) حيوانات الرعي سماداً طبيعياً لكنّه كذلك جاذب للحشرات الموجودة في المكان، وهنا تستغلّ أنواع من الطيور مثل أم سكعكع (Wagtail) والحميراء (Redstart) وأبو الحنّ (Robin) وأبو بليق (Wheatear) وملهي الرعيان (Nightjar) واللوا (Wryneck) وغيرها الفرصة لالتهام تلك الحشرات، خصوصاً أبو بليق الذي ينتزع بمنقاره القُراد (مصاص الدماء) الذي يعيش طفيلياً على حيوانات الرعي. وعموماً، يمكن القول إنّ حيوانات الرعي تزيد من خصوبة التربة لكنّ الطيور تنظّف المكان من الحشرات المضرّة وتنظّف الماشية من الحشرات التي تمتصّ دمها. كذلك فإنّ الطيور تجلب معها إلى المراعي الخصبة بتربتها، بذوراً متنوّعة تنشرها في المراعي لتزيد من تنوع الغذاء للماشية وتنوّع الزهور للنحل.
وهنا لا بدّ للإنسان من أن يستفيد من المراعي بصورة مستدامة، فلا يرهق الأرض ويسمح للماشية بالقليل قبل أن ينتقل بها إلى مكان آخر. ولعلّ تجربة القدامى، قبل نحو 2000 عام، في الرعي التراثي التقليدي وفّرت درساً لرعاة الحاضر من أجل عدم تدمير المراعي من خلال الرعي الجائر الذي يدمّر التربة ويجعلها تتآكل وتنجرف وتفقد أعشابها وخصوبتها. ففي بعض البلدان التي تكثر فيها الحجارة البركانية البازلتية نجد الأقدمين قد قسموا المراعي إلى مربعات أو مستطيلات أو دوائر غير منتظمة ذات أسوار منخفضة من حجارة صخرية سوداء من الممكن مشاهدتها عبر "غوغل إيرث" (Google Earth) من الفضاء كما في الموقع (32°56'53.54"N 36°26'53.53"E) وما حوله. وفي تلك المواقع، تُفتَح مداخل أسوار بعضها ليُسمح بالرعي فيه، ثمّ تُغلق لمدّة عامَين أو ثلاثة لتعود أفضل ممّا كانت، فيما تُفتح مواقع أخرى في الأعوام التي تكون فيها الأولى مغلقة، وهكذا دواليك. ويُسمى نظام الرعي هذا النظام التناوبي. أمّا الأسوار الحجرية فتجلب الطيور التي تعشّش وتتكاثر في ثقوب الأسوار كي تؤدّي دورها بحسب ما ذكرناه آنفاً. ومن الممكن الاستفادة من الرعي بقطع طرق الحرائق من خلال رعي أعشاب أحزمة من الممرّات بين البراري والغابات، ومن خلال السياحة الزراعية المتشوّقة لاكتشاف حياة الرعيان والماشية. يُضاف إلى ذلك الاقتصاد الزراعي المتمثّل بتربية الماشية، ونذكر أنّ إسبانيا تستفيد حالياً من السياحة الرعوية بعدما أنشأت شبكة محمية كبرى لممرّات الماشية، وهي الممرّات المحمية الوحيدة في العالم للماشية.
(متخصص في علم الطيور البرية)