العلاج النفسي... "حرج" الجزائريين تكسره الضرورة

17 أكتوبر 2021
الضغوط الاجتماعية قاسية على الجزائريين (العربي الجديد)
+ الخط -

لا يزال الجزائريون يخشون زيارة الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية بتأثير خلفيتهم الاجتماعية التي فرضتها التقاليد والأعراف والنظرة النمطية إليه، رغم أن حضوره بات ضرورة وأمراً محتماً في الواقع المجتمعي المعقد الذي يلقي بظلاله على نفسية الفرد وصحته مع تزايد الضغوط في السنوات الأخيرة. لكن الواقع يفيد بأن قلة من الناس تعترف بأهمية العلاج النفسي وتقويم سلوك الفرد.
يروي سليم، وهو شاب في العقد الرابع من العمر يقطن في محافظة تيبازة ويعمل في قطاع الاتصالات، قصته مع طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعقلية. يقول لـ"العربي الجديد": "عانت ابنتي التلميذة في المرحلة المتوسطة من مشكلات نفسية في التعامل مع ضغوط الامتحانات، وعدم الانسجام مع بيئة الانتقال من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة المتوسطة، وواجهت أيضاً صعوبات في متابعة الدروس مع اختلاف طرق التعليم بين أستاذ وآخر خلال السنة ذاتها، فعرضت في مرحلة أولى حالتها على مستشارين تربويين لم يستطيعوا تشخيص تصرفاتها وتحقيق نتائج إيجابية ملموسة معها، فلجأت إلى طبيبة متخصصة في الأمراض النفسية والعقلية في بلدة عين تقورايت التي تابعت حالتها في أربع جلسات متتالية، ونجحت في إحداث تغيير في نفسيتها، ما شجعني على الاستعانة بهذه الطبيبة المتخصصة في الأمراض النفسية والعقلية حين أرى حاجة إلى الحصول على استشارة. وأنا أؤمن بالدور الكبير الذي يلعبه الطبيب الاختصاصي في حياتنا اليومية".

قضايا وناس
التحديثات الحية

الأكيد أن المستوى العلمي لسليم ساهم في تفهمه الحاجة إلى طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعقلية لمعالجة ابنته. لكن جزائريين كُثراً لا يزالون يرفضون زيارة الطبيب الاختصاصي لاعتبارات عدة، أحدها أن مفهوم تنشئتهم الثقافية مبني على فكرة أن مهمات الطبيب تنحصر في معالجة الأمراض العضوية، والثاني أن هذا الاختصاصي معني فقط بالمصابين بأمراض عقلية شديدة. 
وهكذا ظل هشام، العسكري المتقاعد البالغ 45 من العمر، يرفض زيارة الطبيب الاختصاصي رغم معاناته من اضطرابات نتجت من تنفيذه مهمات عسكرية دقيقة خلال الأزمة الأمنية الدموية في البلاد. يقول لـ "العربي الجديد": "عشت الخوف من مواجهة الجماعات الإرهابية، وفقدت زملاء كُثراً. كان الموت حالة يومية أثّرت كثيراً على نفسيتي، ما جعل الجيش يسرّحني من الخدمة. ثم ظهرت عليّ عوارض اضطرابات نفسية حادة رفضت زيارة طبيب اختصاصي لمعالجتها، قبل أن أقتنع وبصعوبة بحتمية الخضوع لمتابعة نفسية من أجل التخلص من ذكريات أليمة وهواجس لاحقت مخيلتي".

الهموم اليومية تزيد الاضطرابات النفسية (رياض كرامدي/ فرانس برس)
الهموم اليومية تزيد الاضطرابات النفسية (رياض كرامدي/ فرانس برس)

وإذا كان هشام اقتنع، بصعوبة، بضرورة زيارة طبيب اختصاصي، تتمسك فاطمة، وهي موظفة إدارية، برفض هذا الأمر بالمطلق، معتبرة أنه "يجب قصد الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية خلال الشعور بقلق أو لدى عبور المرء بمرحلة صعبة في الحياة، في حين أن حل الإكثار من قراءة القرآن الكريم أفضل". وتضيف في حديثها لـ"العربي الجديد": "أؤمن بدور الطبيب الاختصاصي في تفسير وتقويم ومتابعة سلوك الأفراد، لكن القرآن الكريم والسنّة والتزام الصلاة تشكل المرجع الرئيس لي في الحياة، لأنها تنشر السكينة والاطمئنان لدي، وتزيل القلق والضغط النفسي عن كاهلي، علماً أن التوترات والضغوط التي نعيشها مردها لتعقيدات الحياة اليومية، وتحوّل الإنسان إلى شبه آلة تجري وراء الماديات مع الابتعاد عن الدين الذي يبقى أفضل عيادة نفسية قد يلجأ إليها المسلم في حياته اليومية".
وفي شأن تعمّد جزائريين كُثر طرق باب الطبيب المتخصص في الأمراض النفسية والعقلية باعتباره أحد الحلول الأخيرة لحالاتهم التي اختبرها آخرون، يقول حمزة بلعباس المتخصص في علم النفس العيادي لـ"العربي الجديد": "الطبيب الاختصاصي في الجزائر، إذ يضطر إلى التعامل مع حالات معقدة كان يمكن معالجتها في مراحل سابقة. الواقع أن المرض النفسي يتدرج من الاضطراب البسيط الذي يمكن علاجه بالإرشاد النفسي وبث الطمأنينة، إلى الفصام العقلي الشديد الاضطراب الذي يجري التحكم به عبر أدوية. فعلياً، أمراض القلق والاكتئاب والوساوس والمخاوف والهستيريا واضطرابات النوم وتلك لدى الأطفال قابلة كلها للشفاء، ولا تحتاج إلى علاج مدى الحياة. من هنا لا يساهم لجوء المريض مختاراً أو مجبراً إلى تجربة خيارات علاج متعددة إلا في زيادة تعقيد حالته النفسية بسبب تضييع الوقت، وفشل التجارب والتعرض لضغوط مختلفة خلال فترة العلاج".

مخاطر على سلوك المراهقين والشبان (رياض كرامدي/ فرانس برس)
مخاطر على سلوك المراهقين والشبان (رياض كرامدي/ فرانس برس)

ويفسر بلعباس أسباب عزوف الجزائريين عن العلاج النفسي بالأعراف والتقاليد، "فلا شك في أن المرضى أو أهلهم يجدون حرجاً في دخول عيادة طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعقلية خوفاً من نظرة المجتمع الذي تترسخ في ذهنه فكرة خاطئة عن أن هذا الطبيب يعالج مختلين عقلياً حصراً". ويؤيد المتخصص في علم النفس التربوي بجامعة محافظة تيبازة، حيادي عبد القادر، رأي بلعباس، ويقول لـ "العربي الجديد" إنه "رغم أن الضغوط العائلية والتعقيدات الاجتماعية تفرض نفسها على يوميات الجزائريين، خصوصاً الأطفال والمراهقين، وتؤثر بشكل كبير في تنشئتهم الاجتماعية واندماجهم في المجتمع، ما يجعلهم يعانون من اضطرابات في السلوك، لكن أولياء أمور قليلين يفكرون في زيارة طبيب اختصاصي بسبب خوفهم من نظرة المجتمع وغياب الثقافة عن فوائد عيادات الصحة النفسية". يضيف: "نحث خلال فترة الامتحانات الدراسية أولياء الأمور على عرض أبنائهم وبرمجة حصص علاجية أو تحفيزية لهم لتخطي رهبة خوفهم من الرسوب ومواجهة المصاعب في الحياة. لكن علاقة هؤلاء بالطبيب الاختصاصي تبقى ظرفية وتنحصر في فترة الامتحانات فقط".
واللافت أن برنامج الصحة العقلية التابع لوزارة الصحة تحدث في تقرير نشره أخيراً عن حاجة 3.5 ملايين جزائري إلى متابعة نفسية، مشيراً إلى أن "هذا الرقم مرشح للارتفاع، ما يعكس مقدار حاجة الجزائريين إلى أطباء متخصصين في الأمراض النفسية والعقلية".

وتكشف أرقام أن رفض الجزائريين زيارة طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعقلية بدأ يتراجع نوعياً بمرور الوقت، خصوصاً مع تحسن مستويات التعليم وزيادة معرفة العائلات بأمراض جديدة تقود أولياء الأمور حتمياً إلى طبيب اختصاصي لمعالجة أطفالهم الذين باتوا ضحايا للعزلة والقطيعة والنقص في التواصل في ظل "استسلامهم" للتكنولوجيا والهواتف الخلوية ومواقع التواصل الاجتماعي.

المساهمون