العقاب المصري... مَن فشل في الانتحار "مجرم"

16 يناير 2022
السلطات المصرية لا ترى أسباباً للانتحار (فاضل داود/ Getty)
+ الخط -

بعدما انشغل الرأي العام المصري بواقعة انتحار شابة، قدم النائب أحمد مهني مشروع قانون لتجريم جريمة الشروع في الانتحار، اقترح معاقبة منفذي المحاولات الفاشلة بإيداعهم في مصحات تُشيَّد لهذا الغرض لمدة تراوح بين ثلاثة أشهر وثلاثة أعوام، إلا إذا قرر القاضي خلاف ذلك، وإخضاع قرار الإفراج عن المحكوم لقرار من لجنة مكلفة الإشراف على المُودَعين في المصحات.
وأورد مشروع القانون أيضاً أنه إذا حاول شخص الانتحار مجدداً، تفرض عليه غرامة مادية لا تقلّ عن 10 آلاف جنيه (640 دولاراً) ولا تتجاوز 50 ألف جنيه (3200 دولار).
واللافت أن نواباً رحبوا بمشروع القانون المقترح، في وقت واجهه مواطنون ونشطاء وحقوقيون وأساتذة في علم النفس والمجتمع بانتقادات واسعة.
عموماً، تؤكد تقارير منظمة الصحة العالمية تزايد حوادث الانتحار في شكل مقلق، بمعدل حالة واحدة كل 40 ثانية في العالم. وتشير إلى أن عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الانتحار سنوياً يفوق عدد المتوفين بسبب أمراض نقص المناعة المكتسبة (إيدز) والملاريا وسرطان الثدي، أو بسبب الحرب وجرائم القتل.

أما في مصر، فتختلف التقديرات الرسمية المعلنة لعدد حالات الانتحار عن تلك التي تصدرها منظمات المجتمع المدني، لكنها تشكل في كل الأحوال مؤشراً خطراً للغاية للواقع السائد، علماً أن تقريراً أصدرته المؤسسة العربية لحقوق الإنسان تحدث عن 78 حالة انتحار خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، و201 حالة في الأشهر الـ6 الأولى من العام ذاته.
ويفيد التقرير بأن 8 وسائل انتحار استخدمت في محاولات الانتحار، بينها الشنق الذي شمل 42 حالة، ثم تناول أقراص سامة أو مواد كيماوية (24 حالة)، والانتحار بالقفز في مياه النيل (6 حالات)، والقفز من مكان عالٍ (5 حالات)، وإطلاق النار (5 حالات)، والحرق والقفز تحت القطار (حالة واحدة لكل منهما).
وكانت منظمة الصحة العالمية قد حددت في أرقام أصدرتها عام 2016 عدد منفذي محاولات الانتحار في مصر بـ3799 شخصاً، الذي اعتبر الأعلى في العالم العربي. لكن القاهرة تحدثت عن "مؤامرة" في العدد المعلن للمنتحرين، ثم أفاد تقرير أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بحصول 69 حالة انتحار فقط عام 2017، وعلّق قائلاً إن "ما يتردد عن زيادة معدلات الانتحار شائعات تستهدف النيل من الاستقرار الاجتماعي".

كورونا فاقم ظاهرة الانتحار (إسلام صفوت/ Getty)
كورونا فاقم ظاهرة الانتحار (إسلام صفوت/ Getty)

الانتقادات 
وفي خلاصة الانتقادات التي واجهها مشروع القانون الجديد المعروض أمام البرلمان المصري، أجمع مواطنون ونشطاء على أن الانتحار ينتشر في العالم، وأن نسبته مرتفعة بين الشباب والمراهقين، مستغربين ألا ينظر إليه باعتباره ظاهرة اجتماعية يجب درس أبعادها بالكامل وحلّها من الجذور عبر النظر في الأسباب المرتبطة بتفكك المجتمعات ومعاناتها من اضطرابات كبيرة في الضوابط واختلالات في التنظيم تجعلها غير قادرة على مواكبة التغيرات الطارئة الحادة والأزمات الاقتصادية الشديد. 
وشدد هؤلاء على ضرورة إجراء دراسات جدّية لكيفية تطويق الانتحار ومساندة الشباب وإزالة كل ما يفضي إلى تعميق التفاوت الطبقي بين المجتمعات، بدلاً من طرح تشريعات لمعاقبة من فشل في الانتحار.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد أكدت في إطار اليوم العالمي لمكافحة الانتحار في 10 سبتمبر/ أيلول الماضي، "أهمية عدم تجاهل إشارات تحذير لنيات الانتحار، بينها ألفاظ وسلوك تشير إلى الرغبة في الموت، أو الشعور بالذنب أو الخجل الهائل، أو بتشكيل عبء على آخرين، وكذلك الإحساس بفراغ ويأس وحزن شديد وقلق وغضب، أو بالوقوع في فخ أو بالاستسلام لفكرة عدم وجود سبب للعيش".
واعتبرت المنظمة أن أي شخص يلاحظ هذه الإشارات وغيرها، سواء لديه شخصياً أو لدى شخص يعرفه، يجب أن يطلب مساعدة من اختصاصي في الرعاية الصحية في أسرع وقت.
أيضاً، طالبت منظمة الصحة العالمية بضرورة إعطاء أولوية لبرامج الوقاية من الانتحار بعد تفشي جائحة كورونا في العالم، بعدما أكدت دراسات أن الوباء فاقم عوامل الخطر المرتبطة بسلوك الانتحار، وبينها فقدان الوظائف والصدمات النفسية وسوء المعاملة واضطرابات الصحة العقلية، والعوائق التي تمنع الحصول على رعاية صحية.

القوانين
في مصر، لا يجرّم قانون العقوبات منفذي محاولات الانتحار، ويتحدث البند رقم 177 فقط عن معاقبة من يحرض على الانتحار، ما يعكس مدى وعي التشريعات لخصوصية وحساسية موضوع الانتحار عبر اتهام من يروجون له أو يحرضون عليه، باعتبارهم يلحقون ضرراً ببشر من خلال دفعهم إلى المضي نحو مزيد من اليأس، والتخلص من حياتهم كوسيلة وحيدة لمواجهة الضغوط الاجتماعية والنفسية. 
ويستند قانون العقوبات المصري إلى مبدأ حماية حق الإنسان في الحياة، ما يعكس إدراكه ضمنياً أن من يقدم على الانتحار هو الطرف الأضعف الذي يجب حمايته من أولئك الذين يحرضونه على الموت. 

إزالة التفاوت الطبقي مهم لتطويق الانتحار (محمد الشاهد/ فرانس برس)
من المهم إزالة التفاوت الطبقي لتطويق الانتحار (محمد الشاهد/ فرانس برس)

مخاطر التجريم 
وفي مقال نشره على موقع "فيسبوك"، يتحدث أستاذ علم الاجتماع في كلية الآداب بجامعة القاهرة المتخصص في علوم الإنسان سعيد المصري عن مخاطر تجريم الانتحار، ويعتبر أن "مشروع القانون المقدم إلى البرلمان يفتقر إلى فهم عميق للأبعاد الاجتماعية والنفسية المعقدة المرتبطة بالانتحار، وكذلك إلى تفهم مثالي للعواقب السلبية للقانون نفسه على الصعد الاجتماعية والنفسية والسياسية". 
يضيف: "يغيّر مشروع القانون المقترح فلسفة قانون العقوبات من خلال جعل الانتحار جريمة يجب معاقبة مرتكبها من دون الالتفات إلى معالجة العوامل التي دفعته إلى هذا التصرف، وذلك انطلاقاً من فكرة أن الانتحار يضر المجتمع، ومصدره هو المنتحر نفسه الذي يجب معاقبته، ما يكرّس مبدأ إلقاء اللوم على الضحية التي يجب أن تودع في مصح نفسي يشبه السجن، في سياق منطق العقوبة وليس تعزيز فرص الحياة". 
ويرى المصري أن "مشروع القانون يكرّس الصورة النمطية السلبية للمصحات النفسية، ويشكل تأكيداً صارخاً لما كتبه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عن جوهر السيطرة على البشر عبر احتجازهم بمبرر إصلاحهم وتأهيلهم وتعليمهم، ما يجعل السجون والمصحات والمدارس مؤسسات للهيمنة على البشر أكثر من كونها أداة تسمح بتحسين نوعية حياتهم".
ويتابع: "يرسخ مشروع القانون الوصمة الاجتماعية للمنتحرين، ويعزز شعورهم العميق بالظلم ويضع المجتمع والدولة معاً في عداء مباشر من دون فهم حقيقة الشعور باليأس من الحياة لدى المعرضين لسلوك الانتحار الذي ينتج من الشعور بالظلم والاضطهاد وانعدام الأمل في الحياة".

مثلث الفناء
ويلفت إلى أن "مشاعر اليأس تبدأ من تصنيف المجتمع المنتحر بأنه مختل نفسياً، قبل أن تتفاقم المعاناة عبر النظر إليه بأنه كافر دينياً، وصولاً إلى قمة الازدراء استناداً إلى الموقف التشريعي الأخير الذي يضيف وصمة عار إضافية إلى المنتحر باعتباره مجرماً، فيكتمل مثلث فنائه الحتمي من خلال الوقوف على حافة الوجود، وقتل نفسه للثأر والانتقام من المجتمع الظالم".
وينتقد المصري التشريع الجديد الذي "يمثل نوعاً من الممارسات المتطرفة في استخدام القوانين". ويشير إلى وجود ميل إلى التعسف في التشريعات التي تشدد العقوبات، خصوصاً في القضايا الاجتماعية والأخلاقية الحساسة، والتي يعتقد مقترحوها بأن عصا القانون الغليظة تكفل بمكافحة أي ظاهرة اجتماعية سلبية، رغم أن التجارب السابقة كشفت أن العقوبات المشددة لم تسفر عن أي نتيجة، بل أبقت عوامل الظواهر السلبية. والعقوبات المشددة قد تؤدي إلى مزيد من التواطؤ المجتمعي حول حالات الانتحار وإخفائها. ومع استمرار حالات الانتحار من دون معالجة جذورها سيضعف ذلك مبدأ سيادة القانون، كما الحال في الثأر المستمر رغم تجريم القانون له. ثم يؤدي ذلك إلى النيل من هيبة الدولة التي تحرس تنفيذ القوانين، ما يزيد الفجوة بين المجتمع والدولة".

ويوضح المصري أن "الانتحار ظاهرة سلبية تحتاج إلى مواجهة مجتمعية شاملة للحد منها، والتي لن تحصل عبر تشديد القوانين والعقوبات وتجريم المنتحرين. من هنا كان الأفضل أن يطور مقترحو مشروع القانون قوانين تلزم المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية الاضطلاع بمسؤولياتها الاستباقية في مقاومة الظاهرة، والإسراع في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والصحي لمن يحاولون الانتحار، في سبيل احتوائهم ودمجهم في الحياة الاجتماعية، ومنحهم الأمل في الحياة".

المساهمون