يعرض تقرير أخير لمنظمة العفو الدولية صورة قاتمة عن أوضاع طالبي اللجوء في ليتوانيا، إحدى دول البلطيق. وإذا كان الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو متّهماً باستخدام التدفّق البشري منذ أكثر من عام من مناطق أفريقية وعربية للضغط على أوروبا بسبب العقوبات على نظامه، فإنّ الأخيرة لا تتصرّف بطريقة أقلّ فظاعة مع هؤلاء الذين اجتازوا الحدود، بحسب ما تؤكدة المنظمة الحقوقية غير الحكومية.
والشهادات التي جمعتها "العفو الدولية" من طالبي لجوء في ليتوانيا، حتى مايو/ أيار الماضي، في مركزَي اعتقال مدينينكاي وكيبارتاي سيّئا السمعة، تشير في معظمها إلى أنّ السلطات تحتجز في ظروف غير إنسانية هؤلاء الذين صنّفتهم قوانينها المعدّلة مهاجرين غير نظاميين، فيما تمنح حرس الحدود صلاحيات لاعتقالهم أو إعادتهم إلى حيث أتوا في الغابات.
وتنقل المنظمة العالمية التي تسعى إلى وضع حدّ للانتهاكات التي تطاول حقوق الإنسان، عن طالبات لجوء من أفريقيا محتجزات في ثكنة عسكرية سابقة في ميدينينكاي تصرّف الحراس معهنّ بطريقة مهينة. وبحسب ما يروينَ، كان ذلك في الثاني من مارس/ آذار الماضي وكنّ نائمات في حجرة صغيرة ورطبة، حين أزاح الحراس الليتوانيون المسلحون عنهنّ الأغطية وأجبروهنّ على الخروج شبه عاريات قبل أن يقيّدوهنّ في البرد القارص.
وتذكر الشابة إليز في شهادتها: "عمدوا إلى رشّ الغاز المسيل للدموع على عينَيّ ووجّهوا سلاحاً إلى جبهتي". وقد أقدم الحراس والسجانون على ذلك بعد يوم واحد من احتجاج مجموعة من طالبي اللجوء على الظروف الصعبة، وحطّموا جزءاً من السياج الذي يفصلهم عن العالم الخارجي. وعلى الرغم من السيطرة على الوضع، بدت التصرّفات المهينة وكأنّها جزء من عملية انتقام من الجميع.
وتضمّ ليتوانيا منذ التدفّق الكبير الذي رعاه نظام لوكاشينكو في بيلاروسيا، في العام الماضي، نحو 2600 طالب لجوء من مختلف الجنسيات، حلموا بالوصول إلى الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنّ ليتوانيا عضو فيه، فقد تعاملت مع طلبات اللجوء بوصفها جريمة، وحوّلت طالبي الحماية إلى ستّة مراكز احتجاز، في ظروف عدّتها منظمة العفو الدولية غير إنسانية ولا تصلح للبشر، مشيرة إلى "انتهاكات خطرة لحقوق الإنسان".
وتدفّق المهاجرين نحو الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، أي دول البلطيق وبولندا على الحدود مع بيلاروسيا، دفع الحكومة الليتوانية إلى فرض حالة طوارئ حدودية لمدّة عام. وكما شدّدت بولندا قوانين اللجوء كذلك فعلت ليتوانيا، خصوصاً في ما يتعلّق بمنح حرس الحدود سلطة تقييم من يُسمح له بالدخول بعد عبور الغابات الحدودية، وبالتالي شرعنة ممارسة "الدفع إلى الوراء"، أي إجبار طالبي اللجوء على المغادرة إلى خارج الحدود الأوروبية، وهو ما تعدّه الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية أوروبية ودولية إجراءات تتعارض والقانون الدولي الخاص بحقّ اللجوء.
والسياسات المتشدّدة التي اعتمدتها ليتوانيا لقيت أيضاً دعماً من المفوضية الأوروبية، بل دعماً مباشراً من بعض الدول التي زوّدتها بأسلاك شائكة على عشرات الكيلومترات، بحجة "حماية حدود أوروبا الشرقية". وقد أدّى ذلك إلى وصف العنف الممارس في حقّ مجتازي الحدود مع بيلاروسيا بالإضافة إلى عنف حرس حدود بيلاروسيا أنفسهم إجراءات عادية لا تستلزم التقيّد بحقوق الإنسان، فيما مُنعت منظمات إغاثة أوروبية من الوصول إلى الغابات التي ضمّت آلاف الأشخاص،علماً أنّ 25 منهم على أقلّ تقدير توفوا بسبب البرد والأمراض.
ومن بين الانتهاكات الشائعة في مراكز الاحتجاز، وفقاً للشهادات التي جمعتها "العفو الدولية" التي لم يُسمح لها بتفقّد الغرف التي يُجمَع فيها طالبو اللجوء، عدم تزويد المرضى بأدوية مسكّنة للآلام إلا بعد أسابيع من الشكوى. يأتي هذا في حين أنّ الأماكن التي يُحشر فيها هؤلاء الأشخاص أشبه بـ"براكيات" متهالكة كانت تُستخدم كثكنات عسكرية، وفيها يعيش هؤلاء كأنّهم معتقلون بالفعل ويشكون من الأمراض ومن عفونة الطعام. وبالنسبة إلى كثيرين من طالبي اللجوء، فإنّ تلك الممارسات مقصودة لجعل الآمال بالحصول على لجوء من الأمور المستحيلة. وقد أفاد هؤلاء بأنّهم يُجبرون على التوقيع على وثائق من دون وجود مترجمين.
وفي يوليو/ تموز من عام 2021، أقرّ البرلمان الليتواني قانوناً يسمح باحتجاز طالبي اللجوء الذين يدخلون البلاد لمدّة ستة أشهر. وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، رُفعت مدّة الاحتجاز إلى 12 شهراً. وقد دعمت المفوضية الأوروبية القانون الليتواني، فيما أثير جدال سياسي أوروبي على خلفية تجريمه حقّ اللجوء، بحسب ما صرّحت في بداية العام الجاري المتحدثة باسم المجموعة الاشتراكية - الديمقراطية في البرلمان الأوروبي بيرغيت سيبل، التي رأت أنّ "طلب اللجوء حقّ وليس جريمة".
وأسوأ الظروف التي يعيشها الذين وقعوا في فخّ "الوصول السهل إلى ألمانيا"، بحسب ما كانت تروّج دعاية الرئيس البيلاروسي في سورية والعراق وغيرهما، لا تتعلق فقط ببضعة رجال بل بعائلات حملت صغارها إلى المجهول في الغابات الفاصلة بين بيلاروسيا وحدود الاتحاد الأوروبي. أمّا من استطاع اجتياز الحدود نحو ليتوانيا، فقد وجد نفسه في ظلّ "واقع مأساوي"، بحسب ما عبّر سوريون وجدوا أنفسهم عالقين في مراكز الاحتجاز. وعلى سبيل المثال، في مركز ميدينينكاي، يتشارك 100 شخص حمّاماً واحداً، ويعيش 500، بما في ذلك عائلات مع أطفال في غرف لا تتجاوز مساحتها خمسة أمتار مربّعة للعائلة الواحدة. وقد مُنعت منظمة العفو الدولية من الدخول إلى تلك الغرف للكشف عليها ونقل حقيقة ما يجري خلف الجدران والأسلاك الشائكة للثكنات العسكرية المهجورة. ويشكو بعض المقيمين العرب في ظل تلك الظروف من غياب تام للرعاية الصحية، فيما تنتشر أفكار سوداوية تدفع بعضهم إلى التفكير بالانتحار.
وقد وثّقت "العفو الدولية" كيف يجري بالفعل احتجاز حرية هؤلاء وعزلهم عن العالم الخارجي، أقلّه من خلال حرمانهم من هواتفهم أو الاتصال بأهلهم ومعارفهم في الخارج، إلى جانب رفض طلباتهم الخاصة باعتماد مترجمين. ويشكو المحتجزون من أنّ ما يجري هدفه الوصول إلى نقطة "التوقيع على وثائق لا ندري ما تحتويه، وهو ما يعني التوقيع ربّما على الترحيل إلى البلد الأصلي". وقد نقلت المنظمة عن جمال، الوافد من سورية، قوله: "أنا محتجز هنا منذ خمسة أشهر، ولا أعرف لماذا يحتجزوننا".
تجدر الإشارة إلى أنّ كثيرين يرون أنّ هذا التشدّد مع طالبي اللجوء الوافدين من خارج أوروبا يظهر فارق المعاملة بينهم وبين اللاجئين الواصلين من أوكرانيا، منذ فبراير/ شباط الماضي. ففي مقابل الكرم والضيافة اللذَين يحظى بهما اللاجئون الأوكرانيون، يعيش العابرون حدود بيلاروسيا في ظروف لا تتماشى حتى مع أدنى معايير حقوق الإنسان الأوروبية. وفي الوقت الذي يتهم فيه رئيس بيلاروسيا، بدعم من موسكو، باستغلال الأوضاع الصعبة في البلدان الأصلية (سورية والعراق ودول أخرى في المنطقة والقارة الأفريقية والآسيوية) لاستخدام المهاجرين طالبي اللجوء في إغراق حدود الاتحاد الأوروبي، فإنّ الأخير الذي يرفع الصوت عالياً منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عن فارق القيم الحقوقية بينه وبين تلك الدول يواصل أيضاً تأييد التشدّد والممارسات غير الإنسانية، بحسب وصف "العفو الدولية" وغيرها من منظمات تُعنى بحقوق الإنسان، في حقّ من يُفترض أنّهم "ضحايا استغلال لوكاشينكو". وربّما يبقى الأمل الوحيد أمام آلاف العالقين أن تنظر محكمة العدل الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، بعد التقرير الأخير، بالأوضاع التي تتنافى والقوانين الدولية، وفقاً للأمم المتحدة على أقلّ تقدير.