تواصل قوات الأمن العراقية رحلة التفتيش تحت ركام مدينة الموصل القديمة في العراق، بحثاً عن جثث الأهالي الذين قضوا جرّاء القصف العشوائي والأخطاء العسكرية التي ارتكبتها القوات العراقية وطيران التحالف الدولي، إضافة إلى العبوات التي تركها عناصر تنظيم "داعش" في المدينة.
وتُظهر أحدث جولة لـ"العربي الجديد" في المدينة، آثار الدمار الذي لا يزال شاخصاً فيما يغيب عنها أهلها، إذ تشتتوا في مخيمات النزوح ومدن عراقية أخرى، أما بعضهم فقد اختار الهجرة إلى الخارج، ومنهم الأقلية المسيحية في الموصل.
وتعرضت الموصل القديمة، الواقعة على الجانب الأيمن من نهر دجلة الذي يمر بالمدينة، إلى دمار هائل، وبالرغم من أن التقارير الحكومية والبرلمانية وتقارير المنظمات المحلية في العراق تفيد بأن هناك أكثر من 40 ألف قتيل وجريح ومفقود بين المدنيين، وانهيار 70 في المائة من أبنية المدينة، إلا أنها وعموم محافظة نينوى لم تشهد أي حملات لتعمير شبكات الطرق والجسور، إضافة إلى المستشفيات، والربط الكهربائي، فضلاً عن الفقر والبطالة.
ويرجع مسؤولون محليون وناشطون من الموصل أبرز أسباب عدم تقدم الجانب العمراني والتعمير في المدينة إلى الصراع السياسي بين القوى النافذة في محافظة نينوى، إضافة إلى احتدام الصراع بين بعض القوى المسلحة التي دخلت على خط العمل التجاري والاقتصادي في الموصل.
ولأن الموصل القديمة بلا أي معالم حياتية، فإن الدخول إليها صعب ويحتاج إلى سلسلة من الموافقات الأمنية، كما أن الصحافيين لا يدخلون إلا مع قوات الأمن، ويعتبر "جهاز مكافحة الإرهاب"، الذي يديره الجنرال عبد الوهاب الساعدي، هو المسيطر على المدينة المنكوبة. ويؤكد ضباط من "مكافحة الإرهاب" لـ"العربي الجديد"، أن "المدينة خالية من أي وجود للأهالي، كونها لا تتوفر على أي من أساسيات الحياة، ولم تعد غير أكوام من الأنقاض التي تحتاج إلى فترات طويلة من أجل رفعها ومن ثم بدء حملات الإعمار".
واليوم، الثلاثاء، أعلن عن العثور على ثلاث جثث جديدة لمدنيين، وذلك بعد نحو أسبوع من الإعلان عن انتشال 93 جثة من تحت أنقاض المنازل، وجدت في المدينة القديمة من الموصل، بحسب بيان للدفاع المدني في المدينة.
وفي السياق، بيَّن الناشط من الموصل يحيى الأعرجي أن "الموصل القديمة هي أكثر ما يؤلم أهالي الموصل الأصليين، كونها الذاكرة الحقيقية لنينوى، وقد دمرت جرّاء الحرب، لذلك، هي أكثر ما يؤلم الأهالي، ولا سيما أنها حالياً منكوبة بلا أي اهتمام، لا من الداخل العراقي ولا من الخارج"، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "الوعود الكثيرة من قبل بلدان الخليج العربي والأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية بشأن إعمار المدينة، لم يتحقق منها أي شيء"
من جهته، قال عضو البرلمان العراقي النائب عبد الرحيم الشمري، في حديثٍ مقتضب مع "العربي الجديد"، إن "الموصل القديمة يُعاد إعمارها على الورق فقط، أما على أرض الواقع فلا تشهد المدينة أي حراك جاد لإعادة الحياة إليها"، موضحاً أن "أسباب الحكومة وكل الحكومات العراقية التي مضت في عدم إعمار المدن المحررة، هي عدم توفر الأموال الكافية، ولكن بطبيعة الحالة، فإن إعمار الموصل القديمة بات ضرورة، ولا سيما بعد مرور أربع سنوات على تحريرها".
أما أثيل النجيفي، محافظ محافظة نينوى قبل احتلالها من قبل تنظيم "داعش"، فقد أشار إلى أن "الموصل القديمة هي أكبر ضحايا الحرب على الإرهابيين، وأكثر الأجزاء إهمالاً من مدينة الموصل، كونها لم تشهد أي حملات واقعية لرفع الأنقاض وإعادة تعميرها منذ سنوات".
مبيناً لـ"العربي الجديد"، أن "ملف الإعمار يخضع للقدرة المالية للحكومة العراقية من أجل إنجاز المشاريع، وفي الوقت نفسه يتعرض لتجاذب سياسي، وهناك قوى حزبية وأخرى مسلحة تمنع أي تطور في المناطق المحررة من أجل غايات انتخابية، فيما تخطط قوى مسلحة وسياسية أخرى لبقاء الحال في بعض المناطق كما هو عليه الآن بلا تقدم، في سبيل إجراء عمليات تغيير ديمغرافي".
وبالرغم من أن القضاء العراقي استكمل غالبية بنود التحقيق بسقوط المدينة على أيدي "داعش"، إلا أنه لم يستدع لغاية الآن أي من الأسماء التي ذكرها التقرير، وعلى رأسهم رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي، وهو المتهم الأول بالقضية، ويتحمل مسؤولية سقوط المدينة، بحسب تقرير لجنة تحقيق برلمانية رسمية، الذي قال إن "المالكي و35 مسؤولاً كبيراً يتحملون مسؤولية تسليم الموصل للتنظيم من دون قتال".
وتسبب سقوط المدينة بانهيار قطعات الجيش العراقي بشكل متسارع، لتسقط مدن شمال العراق الرئيسية بقبضة "داعش"، وأبرزها تكريت والحويجة والقيارة وتلعفر والحضر وتلكيف وربيعة والشرقاط، قبل أن يلتف التنظيم ويسيطر على مدن في غرب العراق أيضاً.
واستعادت القوات العراقية بدعم من التحالف الدولي السيطرة على مدينة الموصل وطرد مسلحي تنظيم "داعش"، في يوليو/ تموز 2017، بعد نحو 10 أشهر من المعارك التي خلفت عددا كبيرا من الضحايا المدنيين يقدرهم نواب ومسؤولون بعشرات آلاف القتلى والجرحى، أغلبهم من النساء والأطفال، فضلا عن دمار هائل قدرت وزارة التخطيط العراقية أنه طاول أكثر من 56 ألف منزل، ويعتقد أن نحو ألف منزل منها ما زالت جثث أصحابها تحت أنقاضها، إضافة إلى تسجيل أسماء 11 ألف مفقود.