تتجلّى التحذيرات المتعلقة بتغيّر المناخ في الكثير من البلدان، من بينها ليبيا التي ضربت مناطقها الشرقية العاصفة دانيال في العاشر من سبتمبر/ أيلول. بعيداً عن حجم الدمار الكبير الذي خلّفته العاصفة في مدن الجبل الأخضر عموماً، وتسببها في انهيار سدي وادي درنة وجرف ثلث المدينة بالكامل نحو البحر، ومقتل وفقدان الآلاف، فقد أدت العاصفة إلى حدوث تغيرات كبيرة في شكل درنة ومناطق الجبل.
وبشكل مبدئي، وثّقت شواهد مصورة من أهالي المنطقة انجرافاً كبيراً في عموم الجبل. وقامت السيول غير المسبوقة بسحب الطين والتربة إلى الوديان الكثيرة في الأرجاء، ومنها إلى البحر الذي تغيرت مساحات شاسعة منه إلى اللون البني الناتج عن تمازج مياهه الصافية مع الطين والتربة والمخلفات، تاركاً جزءاً كبيراً من مزارع ومراعي المنطقة ككومة من الصخور الصغيرة التي نحتتها المياه.
وفي أحد مراعي منطقة الحنية، إحدى ضواحي مدينة البيضاء، يترقب الراعي داوود الحاسي حلول الربيع المقبل لمعاينة الأضرار الناجمة عن هذا الجرف غير المسبوق. ويقول الحاسي لـ "العربي الجديد": "هناك تغير ملحوظ في أنواع الحشائش التي ستنمو، والتي نعتمد عليها في تغذية الماشية طوال فصل الربيع وغالبية فصل الصيف"، مشيراً إلى الاختلاف الكبير بين أعشاب سفوح السهول التي تشكل مراعي خصبة للمواشي.
ويوضح الحاسي أن الجرف العميق الذي أحدثته السيول جعل تربة السهول بغالبيتها حجرية بعدما كانت خصبة. ويقول: "تغير كل شيء تقريباً. فتربة السهول تأثرت بالانجراف بشكل كبير وحل مكانها ما نزل من أعالي الجبال وبطون الأدوية"، مشيراً إلى إمكانية تغير أنواع الحياة النباتية في مراعي السهول.
وعدا عن ذلك، يلفت الحاسي إلى حالة التعرية التي ستعانيها الغابات المتبقية في الأودية والجبال. ويؤكد الأكاديمي وأستاذ الجيوفيزياء بجامعة بنغازي عوض فرنين، على أهمية معالجة الغطاء النباتي للمحافظة على الاستقرار والتوازن في البيئة وما يعيش فيها.
وتمتد سلسلة تلال الجبل الأخضر من بنغازي غرباً إلى درنة، على طول نحو 350 كيلومتراً بمحاذاة البحر. وتأثرت غابات الجبل في السنوات السابقة بشكل كبير من جراء عمليات القطع الجائر لأشجارها، والبناء غير القانوني، وأخيراً السيول والفيضانات.
وتقع غالبية البلدات والقرى التي تضرّرت بالسيول والفيضانات في سفوح هذه الجبال، والسهول الفاصلة بينها وبين البحر، وتكثر فيها المراعي والمزارع. ويعرب الحاسي عن قلقه إزاء الأنباء بشأن تلوث المياه الجوفية، مشيراً إلى قضية أخرى باتت تشغل بال سكان الجبل تتعلق بسلامة المخزون المائي الجوفي المهم بالنسبة للسقاية في المزارع والمراعي.
وحذرت وزارة الصحة في الحكومة المكلفة من مجلس النواب في بنغازي، والمركز الوطني لمكافحة الأمراض في طرابلس، سكان المناطق المتضررة من الفيضانات من استخدام المياه الجوفية ومياه الشبكات العامة بسبب تلوثها.
وفي السياق، نقلت وسائل إعلام محلية عن أحد أعضاء فرق الإصحاح البيئي التابعة للإدارة العامة لشؤون الإصحاح البيئي بوزارة الحكم المحلي في حكومة طرابلس، قوله إن نتائج التحاليل "أثبتت تلوث جميع مصادر المياه الجوفية العامة والخاصة تلوثا جرثومياً".
ويتحدث فرنين لـ "العربي الجديد" عن أسباب العاصفة دانيال ومرورها لأول مرة على الساحل الشرقي ليبيا، مشيراً إلى أن "لهذا التغير في المناخ علاقة بارتفاع الحرارة عامة، وحرارة مياه البحر بشكل خاص، التي وصلت هذا العام إلى الثلاثين". ويقول: "أكثر ما يخيف هو أن تستمر في الارتفاع خلال السنوات المقبلة، إذ أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد من معدلات التبخر والرطوبة وبالتالي ارتفاع الهواء الدافئ الرطب إلى الطبقات العليا، ما يساهم في تكوين منخفضات جوية وعواصف رعدية قد تتطور إلى أعاصير ستزيد سخونة المياه من تغذيتها وتضخيم حجمها وتأثيرها".
ويشير فرنين إلى إمكانية تغير الكثير من المعالم الجغرافية على سطح الأرض والجيولوجيا تحت الطبقات القريبة من السطح، قائلاً إن "الأمر لا يتعلق بالتغيرات المرجحة في الحياة النباتية، بل أيضاً في الحياة البحرية، فالكميات الهائلة من المخلفات والجثث التي قذفت بها السيول إلى البحر قد تبعث على التخوف من ارتفاع نسب التلوث وخصوصاً مع ارتفاع درجات حرارة البحر". ويشير إلى أن ذلك سيشكل تحدياً جديداً أمام استمرار بقاء أنواع كثيرة من الحياة البحرية.
وعلى سواحل البحر قبالة درنة والمناطق المتضررة الأخرى، برزت تغيرات جديدة، فقد غمرت الصخور والطمي أجزاء من البحر وغيرت الشكل العام لسواحل المنطقة الصخرية والمليئة بالكهوف البحرية التي كانت جاذبة للسياحة الداخلية، ومنها انجراف شلال درنة الذي كان من أهم معالم المدينة.
وتسبب انجراف رأس الجبل الذي ينحدر منه الشلال وتحطم جوانبه في اختفاء الشلال، وتفجرت عشرات العيون الأخرى أسفل الشلال، وعلى طول مسافات متعددة منه.
صور بعض النشطاء تفجر عيون مياه في منطقة الأبيار شرق بنغازي، وعودة عيون أخرى كانت قد نضبت بفعل عوامل التصحر في العديد من المواقع في أودية الجبل الأخضر. ويؤكد فرنين أن كل ما حدث مرتبط بالعاصفة، الأمر الذي يتطلب إجراء الأبحاث والدراسات.
إلى ذلك، يرى المهندس المدني جبريل المهيوب أن التغيرات الحاصلة ستؤدي إلى تغيرات مصاحبة في شكل وأنماط العمران الجديد. ويتحدث لـ "العربي الجديد" عن "تغير كبير في طبوغرافيا (مصطلح يوناني مركب من كلمتين: طبو TOPO وتعني الأرض أو المكان، وغرافيا GRAPHIE وتعني الرسم والتمثيل البياني للتضاريس) وسط درنة بعدما جرفت المياه عمق مجرى الوادي. وسيتغير شكل الجسور الجديدة التي ستربط جانبي الوادي، كأحد الإجراءات الوقائية للسكان في حال حدوث فيضانات". يضيف: "ستتغير طريقة ربط المدينة بمحيطها من خلال المنافذ الرئيسية التي تقوم أساساً على الجسور"، مشيراً إلى ضرورة "تعديل الخرائط الهندسية لدى إعادة اعمار البلاد وفتح الطرقات ومسار الاتجاهات، وذلك من جراء التغير الكبير في طبوغرافيا الأرض في المدينة بعدما غيرت السيول من معالم الأرض".