الطبيب غسان أبو ستة... رسول ترميم جراح الغزيين

بيروت

سارة مطر

avata
سارة مطر
26 أكتوبر 2023
الجراح الفلسطيني غسان أبو ستة.. عاد إلى الوطن ليطبّب مصابي العدوان
+ الخط -

بعد مرور نحو ثلاثة أسابيع على الحرب الدموية والغارات العنيفة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، يسرد الجرّاح الفلسطيني ـ البريطاني غسان أبو ستة مشاهداته المروّعة من داخل مستشفيات القطاع. جرّاح التجميل والترميم المعروف بطبيب الحروب والنزاعات، كان قد وصل إلى غزة قبل وقت قصير من إغلاق معبر رفح من جراء الحرب الإسرائيلية. 
الطبيب القادم من بريطانيا كُتب له أن يشهد المزيد من المآسي والحالات الحرجة والقصص الإنسانية القاسية. انضم إلى منظمة "أطباء بلا حدود" في القطاع، قبل أن يظهر في مؤتمر صحافي وسط جثامين شهداء مجزرة المستشفى المعمداني، التي ذهب ضحيتها أكثر من 500 شهيد. وهي الصورة التي ستخلدها الذاكرة البشرية في رسالة مدوية توثق فظاعة الارتكابات التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.
يتحدث أبو ستة لـ"العربي الجديد"، عن إجرام موصوف يشهده قطاع غزة، قائلاً إن "الفرق الأساسي بين الحرب الراهنة والحروب السابقة على القطاع يكمن في التغول بالدم، لناحية عدد الشهداء والمصابين. ففي غضون أسبوعين فقط، سقط أكثر من 6 آلاف شهيد، عدا عن آخرين لا يزالون تحت الردم، وأكثر من 17 ألف جريح. وهذه أرقام كبيرة قياساً بعدد سكان القطاع الذين يقارب عددهم المليونين وربع المليون نسمة. كما أن المختلف في هذه الحرب هو أن القصف يستهدف المباني السكنية بقصد تدميرها بالكامل. ولغاية تاريخه، أزيلت أكثر من ستين عائلة بشكل كامل من السجل المدني، أي الجد والجدة والأولاد والأحفاد. معظم الذين استشهدوا كانوا يحتمون عند أقاربهم، فتمّ استهدافهم جميعاً".
ويصف الحرب الدائرة بأنها "تشبه أكثر حصار بيروت عام 1982، إذ يتم تطبيق سياسة الأرض المحروقة، وهو مبدأ لم يكن قائماً قبل ذلك. ففي كل مرة يتم مسح مربع محدد من قطاع غزة مسحاً شاملاً، ومن ثم الانتقال بعد أيام إلى مربع آخر ومسحه بالكامل. كما أن الإبادة الجماعية كانت تكتيكاً يُستخدم، لكنها لم تكن التكتيك الوحيد المستخدم، غير أن الوضع مختلف هذه المرة". 
الجرّاح الفلسطيني المشهود بإنسانيته يواصل جهوده الإغاثية لإنقاذ أكبر عدد من الأرواح، سواء من خلال معالجة الحروق وترميمها وتجميلها أو من خلال الاستجابة السريعة للحالات الحرجة في مجمّع الشفاء الطبي داخل القطاع، وذلك من منطلق خبرته الطويلة في هذا المجال، ويلفت إلى أن "مجزرة المستشفى المعمداني حملت العديد من المشاهدات الأليمة والقصص الموجعة، فلا يمكن توصيف حالة واحدة بأنها الأسوأ. جميع الحالات شديدة القساوة. بعدما سقط الصاروخ وأحدث دماراً هائلاً في غرفة العمليات، توجهتُ إلى باحة المستشفى التي كانت مشتعلة بالنيران وممتلئة بالجثث والأشلاء. ثم دخلتُ غرفة الطوارئ حيث أعداد مهولة من الجثث والجرحى. هرعتُ لإنقاذ رجل بُترت ساقه من أعلى فخذه، كان ينزف وتتطاير الدماء، فانتزعتُ حزامه وربطته على فخذه. ومن ثمّ توجهتُ لمساعدة شاب آخر أُصيب بشظية في عنقه، اخترقت أحد الأوعية الدموية وأدّت إلى تنافر الدماء، فأمسكتُ بعنقه وضغطت عليه بيديّ كي يتوقف النزيف، قبل أن نضعه في سيارة الإسعاف فور وصولها. أجرينا عمليات جراحية في الأروقة باستخدام مخدر الطب البيطري".
ويرى الطبيب الذي اختبر أكثر من عدوان وحرب بحق أبناء شعبه، أن "الإسرائيليين اختاروا المستشفى المعمداني كونه مستشفى مرتبطاً بالمجلس العالمي للكنائس، في رسالة واضحة مفادها أنهم لا يمتثلون لأي خطوط حمراء. واضطررنا ليل المجزرة إلى نقل المصابين وإجراء عمليات جراحية لهم في أروقة مجمّع الشفاء الطبي، كون الأعداد كانت تفوق قدرة غرف العمليات على الاستيعاب، وكنا نستخدم عوضاً عن المخدر دواء كيتامين قبل إجراء العمليات الجراحية، علماً أنه بديل بدائي جدّاً وهو دواء يُستخدم بشكل أساسي في الطب البيطري لتخدير الحيوانات".

بحسرة، ينبّه أبو ستة إلى أن "الوضع داخل مستشفيات قطاع غزة كارثي بكل معنى الكلمة. فقد استهلك 17 ألف جريح كميات هائلة من المستلزمات والمعدات الطبية والجراحية والأدوية. انقطعنا من مستلزمات عديدة، فيما شارفت أخرى على الانتهاء. لم يعد في حوزتنا ضمادات للحروق، من جراء الحالات العديدة التي تُسجل يوميّاً. النواقص ملحة في كل الأقسام من قسم العناية المركزة ومستلزماتها، قسم العمليات الجراحية ومستلزماته وأدواته. والمشكلة ليست فقط بنقص التخصصات بسبب الحصار، إنما في الكم الهائل من الجرحى (أكثر من 17 ألفاً)، في حين أن عدد الأسرّة في قطاع غزة بأكمله لا يتجاوز 2500 سرير. العدد الفظيع للمصابين يفوق قدرة أي نظام صحي بكل التخصصات على الصمود. ناهيك عن زيادة وتيرة انقطاع التيار الكهربائي وما يترتب عنه من تداعيات سلبية خطيرة على القطاع الطبي والاستشفائي". 
ويلفت إلى أن "قرابة 40 في المائة من المصابين هم من الأطفال، لكن غالبية الإصابات هذه المرة هي إصابات بالحروق بنسبة عالية جدّاً، أي أن الأسلحة والقنابل المستخدمة مصنوعة من جزء اشتعالي أو حارق بشكل أكبر. وسُجّلت إصابات بالشظايا من جراء القصف والانفجارات التي تُحدث بدورها الكسور والتهتك في الأنسجة الرخوة والحروق. كما أن انهيار المباني والردم يتسببان بالكسور والإصابات الداخلية، وأيضاً تنجم إصابات عن الشظايا المتطايرة".

يعمل الأطباء على إنقاذ ما أمكن من الجرحى (دعا الباز/ الأناضول)
يعمل الأطباء على إنقاذ ما أمكن من الجرحى (دعا الباز/ الأناضول)

ويلفت أبو ستة إلى أن "نسبة الإصابات الحرجة تبلغ 150 حالة في مراكز العناية المركزة، ومن المستحيل اليوم إحصاء عدد حالات التشوهات، لكننا نصادف نسبة عالية من التشوهات والإصابات بالأطراف، ما يعني أن الإعاقة المستدامة ستكون جزءاً أساسيّاً في المرحلة المقبلة". وعن تحذير الاحتلال الإسرائيلي بقصف عدد من المستشفيات، يؤكد أبو ستة أن "إخلاء المستشفى مرفوض بالمبدأ وهو غير عملي. كما أن استهداف المستشفيات جريمة حرب، والإنذار والتحذير بقصف المستشفيات لا يغيّر واقع أنها جريمة حرب"، ويسأل: "أين نذهب بـ1600 جريح في مجمع الشفاء، معظمهم يعانون من إصابات حرجة؟".
ويكشف الطبيب الفلسطيني أن "مستشفى الأمراض السرطانية في غزة أصبح عاجزاً عن تقديم خدماته العلاجية، كما أن مرضى غسيل الكلى لا يقصدون المستشفى سوى مرة في الأسبوع، تفادياً لمخاطر التنقل غير الآمن". ويتطرق إلى ما يعانيه الأطباء والممرضون في القطاع من "أزمة فظيعة، إذ تستهدف عائلاتهم. معظم زملائي في قسم الحروق تشردت عائلاتهم بعدما فقدوا منازلهم، وهناك من استشهد له أقارب، وقد استشهد زميلنا في قسم الحروق الدكتور مدحت صيدم. باختصار، نعاني جميعاً من ضغط نفسي فظيع وإرهاق جسدي متواصل. لكن إلى جانب دورنا الإغاثي والصحي والرعائي، يتحتم علينا كأطباء واجب أخلاقي في الدفاع عن حقوق المرضى وأن يكون كل منا شاهداً على هذه المأساة الإنسانية وجراح الشعب الفلسطيني".

قضايا وناس
التحديثات الحية

ويختم أبو ستة حديثه بالإشارة إلى "تنسيق متواصل مع الأطباء العاملين في المنظمات الدولية، ومع الزملاء في مصر وقطر والكويت وغيرها من الدول العربية، لكن لا يمكننا أن نغفل مسألة الحصار الكامل على قطاع غزة وانعكاساته المدمرة".
وتوجز "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" السيرة الشخصية للطبيب أبو ستة، الذي انضم عام 2011 إلى المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت. ففي عام 2012، أصبح رئيساً لقسم الجراحة التجميلية والترميمية في المركز، ومسؤولاً طبياً لبرنامج إصابات الحرب لدى الأطفال والعيادة المتعددة التخصصات بإصابات الحرب. وفي عام 2015، شارك في تأسيس برنامج طب النزاعات في معهد الصحة العالمي في الجامعة الأميركية في بيروت وأصبح مديراً له. ثم عاد إلى المملكة المتحدة عام 2020 وعمل في الجراحة التجميلية والترميمية في القطاع الخاص. وهو محاضر شرف في مركز دراسات إصابات الانفجار في جامعة إمبريال كوليدج في لندن، ومحاضر أول زائر في فريق أبحاث الصراع والصحة في جامعة كينغز كوليدج في لندن، والمسؤول الطبي لمبادرة الرضوح في المكتب الإقليمي لشرق المتوسط التابع لمنظمة الصحة العالمية، وعضو في مجلس إدارة جمعية إنارة، وهي مؤسسة خيرية مكرسة لتوفير الجراحة الترميمية للأطفال من مصابي الحرب في الشرق الأوسط، وعضو في مجلس أمناء مؤسسة المعونة الطبية للفلسطينيين في المملكة المتحدة. 
يعمل في لجنة التمويل الدولية التابعة للمعهد الوطني للبحوث الصحية في المملكة المتحدة. ونشر على نطاق واسع عن العواقب الصحية للنزاع المطول وإصابات الحرب. كما عمل كجرّاح حرب في اليمن والعراق وسورية والجنوب اللبناني وخلال الحروب الأربعة في قطاع غزة.

ذات صلة

الصورة
جرحى ومصابون بمستشفى كمال عدوان، أكتوبر 2024 (الأناضول)

مجتمع

في مستشفى كمال عدوان بشمال قطاع غزة المنكوب، يئنّ المرضى والجرحى بلا أدوية ولا تدخلات طبية، إذ تنعدم الإمكانات جراء حصار إسرائيلي مطبق وحرب إبادة متواصلة.
الصورة
لاجئو مخيم النصيرات ينزحون إلى مناطق أكثر أمناً بسبب استمرار الهجمات

سياسة

قالت "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير أصدرته الخميس، إن السلطات الإسرائيلية ارتكبت سلسلة من جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة ترقى إلى التطهير العرقي
الصورة
عمال إنقاذ وسط الدمار الناجم عن غارة جوية على غزة، 7 نوفمبر 2024 (Getty)

سياسة

زعمت القناة 12 العبرية، أمس الاثنين، أن الإدارة الأميركية قدّمت للسلطة الفلسطينية مقترحاً بشأن الإدارة المستقبلية لقطاع غزة
الصورة
استعداد لاستقبال الأسرى أمام سجن عوفر (العربي الجديد)

مجتمع

تشكّل قضية معتقلي غزة في سجون الاحتلال التّحدي الأبرز أمام المؤسسات المختصة مع استمرار جريمة الإخفاء القسري، التي طاولت الآلاف من معتقلي غزة