في شهادة لم يفارقها الألم يسلط الطبيب المغربي زهير لهنا (58 عاما)، العائد أخيرا من غزة، الضوء على كابوس لا ينتهي من المعاناة التي يتعرض لها أهالي القطاع، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
يصف الحياة في غزة قائلا: "ما يقع من فتك بحق مليوني نسمة في مربع صغير ودون أن يترك لهم أدنى مقومات الحياة أو وسيلة للنجاة هو قسوة لم يشهد العالم لها مثيلا. ما يقع بهذه الأرض (غزة) وتحت أنظار العالم سيبقى وصمة عار للأبد".
وبنبرة ألم يحكي الطبيب المغربي لـ"العربي الجديد" عما شهده في رحلة تطوعه الإنسانية إلى قطاع غزة على مدار شهر، برفقة فريق طبي ضم 20 طبيبا ينتمون إلى تجمع الأطباء الفلسطينيين بأوروبا ومؤسسة "رحمة" العالمية، قائلا: "رفح صارت مدينة بؤس، الدمار يعم المكان ومياه الصرف الصحي تتدفق في الشوارع والأماكن العامة لتُضاعف معاناة السكان والنازحين في ظل تراجع مقومات النظافة والصحة العامة. آلاف الفلسطينيين يعانون في المدارس وآخرون يعيشون في خيام بدائية تسترهم ولا تؤويهم ولا تحميهم من الحر نهارا والبرد الشديد ليلا. معاناة الأطفال والكبار تزداد مع قلة الماء والأكل فضلا عن غلاء فاحش لا قِبل للناس به".
زهير لهنا.. طبيب الفقراء
في 20 يناير / كانون الثاني الماضي، تمكن استشاري النساء والولادة، من الولوج إلى قطاع غزة لتقديم يد العون إلى شعب أعزل يواجه آلة القتل والتهحير والتجويع.
يقول الطبيب زهير لهنا الذي اختار منذ 25 عاما أن يضع خبرته الطبية في خدمة ضحايا الحروب في العالم من الكونغو مرورا بأفغانستان وسورية ووصولا إلى فلسطين: "كانت فكرة الانتقال إلى غزة في خضم الحرب الضروس التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع بالنسبة لي أمرا تلقائيا بحكم أني ذهبت إلى فلسطين لثماني مرات (4 مرات إلى الضفة الغربية ومثلها إلى قطاع غزة خلال حربي 2009 و 2014)".
يضيف: "حينما اندلعت معركة طوفان الأقصى أدركت أن الأمر سيكون صعبا لاسيما في ظل القصف الشديد وإرسال حاملة الطائرات الأميركية والدعم الكلي للدول الغربية لإسرائيل، لكن لم نتصور أن الأمر سيذهب بنا إلى ما نشهده اليوم من إبادة جماعية وتطهير عرقي دون أن يتحرك العالم".
ويصف العقبات والمصاعب التي واجهته في طريقه إلى غزة قائلا: "صعاب جسيمة تعترض طريق كل من يرغب في التوجه إلى قطاع غزة، إذ لا بد من تنسيق وموافقة أمنية من الأمن المصري، وضوء أخضر من المخابرات الإسرائيلية. لا شيء يدخل أو يخرج من القطاع إلا بموافقة وعلى مرأى الاحتلال".
يضيف: "كان من المقرر في البداية أن يتوزع الفريق الطبي بين المستشفى الأوروبي ومستشفى ناصر، لكن كان الذهاب إلى هذا الأخير مستحيلا بعدما بدأ الطوق يشتد عليه، وفي ظل استهداف القناصة الإسرائيليين لكل من يدخل أو يخرج منه، ما اضطر فريقا صغيرا إلى التوجه نحو مستشفى شهداء الأقصى بالمنطقة الوسطى، في حين مكث فريقنا في المستشفى الأوروبي"، معلقا: "بحكم اختصاصي كان لا بد من ذهابي إلى مستشفى الأم والطفولة برفح، وهو المستشفى الوحيد الذي ظل يعمل في القطاع".
ويقول الطبيب المغربي عند سؤاله عن أهم الصعاب التي اعترضته في مهمته التطوعية في قطاع غزة حيث كان شاهدا على جزء مما يعيشه الشعب الفلسطيني من جحيم: "اشتغلت لمدة شهر بالمستشفى الأوروبي بخانيونس وبمستشفى الأم والطفل برفح، كانت ظروف التنقل بسيارات الإسعاف صعبة وخطرة جدا في ظل تعرضها للقصف، وفي كل لحظة تنقل كنا نترقب حصول الأسوأ، لكن الحمدلله سلمت الأمور".
ويصف أوضاع المرضى قائلا: "في مستشفى الأم والطفل كان الضغط كبيرا، بعدما أصبح قبلة لكل النساء الحوامل في القطاع (ما بين 50 و60 ألف امرأة حامل) واللواتي كانت معاناتهن كبيرة جراء النقص في التغذية وعدم تتبع الحمل بشكل شبه كلي، ناهيك باضطرار العديد منهن إلى مغادرة المستشفى بعد 3 أو 4 ساعات من وضعهن ليفسحن المجال لغيرهن جراء ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفى، وارتفاع معدل الولادات الطبيعية"، موضحا أن المستشفى كان يستقبل قبل الحرب ما بين 15 و20 حالة ولادة، بينما ارتفع العدد بعد الحرب إلى ما بين 70 و80 حالة، كما ارتفع معدل الولادات القيصرية من 5 عمليات إلى 20 عملية.
ويصف الطبيب زهير لهنا حال النساء الحوامل اللواتي يحتجن إلى عمليات قيصرية بأنهن كن مكرهات على مغادرة المستشفى بعد 24 ساعة، والعودة إلى الخيام في ظروف صعبة أودت بحياة عدد من الرضع جراء الظروف القاسية.
عاد لهنا من غزة محملا بعشرات القصص المؤلمة، غير أن قصة إحدى السيدات الحوامل تأثر بها أكثر من غيرها، يستذكر تفاصيلها قائلا: "من القصص الحزينة التي كنت شاهدا عليها قصة سيدة حامل قدمت إلى المستشفى في حالة ولادة متأخرة، وفي وقت تمكن الطاقم الطبي من إجراء عملية قيصرية وإنقاذ الجنين، إلا أنه خلال العملية الصعبة حدث تمزق الرحم والمثانة. وبالرغم من تمكن الأطباء من إصلاح الأمر إلا أنها أصيبت بتعفن جعل وضعها الصحي صعبا ودفع بالأطباء إلى اتخاذ قرار تحويلها إلى المستشفى الأوروبي، لكن ما إن هم الفريق الطبي بإخراجها حتى تدهورت حالتها الصحية بشكل سريع ليتم نقلها إلى قاعة عمليات ما بعد الولادة. لكن، مع الأسف، لم تفلح محاولات إنقاذها لتفارق الحياة تاركة وراءها 5 يتامى ورضيعا بعمر 3 أيام وزوجا مكلوما".
لا يخفي الطبيب المغربي الملقب بـ"طبيب الفقراء" شعوره بالأسى والتقصير وتأثره بما شاهده من معاناة يحرص أشد الحرص على نقلها إلى العالم، مؤكدا أن تجربته في غزة هي الأصعب التي عاشها خلال رحلاته الطبية في مناطق النزاع على مدى ربع قرن.
يختتم "طبيب الفقراء" قائلا: "الأوضاع صعبة جدا وهي أكثر صعوبة في شمال القطاع، حيث السكان محاصرون ومعرضون للأمراض والمجاعة التي تفتك بحياتهم. لذا نطالب بوقف النار وإنقاذ أبرياء يواجهون حربا ضروسا ضد إنسانيتهم وكرامتهم. ومع التهديدات المتصاعدة باجتياح رفح يعيشون في كربة وهول، يترقبون يوما بعد آخر ما سيحل بهم".