على الرغم من أن الصين انتهجت سياسة الإصلاح والانفتاح منذ أكثر من أربعة عقود، فإن انفتاحها على العالم الخارجي اقتصر على الجانب الاقتصادي والتبادلات التجارية، وحملت هذا السياسة في طياتها، وإن في مرحلة متأخرة، بناء جدار من الحماية يكرس العزلة الاجتماعية لملايين السكان، خصوصاً مع الغزو التكنولوجي للعالم في الألفية الثانية.
ومع بدء الحديث عن العولمة والقرية الكونية الواحدة، كانت قيادة الحزب الشيوعي تؤسس لخلق بدائل تغني شعبها عن الانخراط في ثورة تكنولوجية ومعرفية يديرها ويقودها الغرب. وتخلل ذلك حظر مواقع التواصل الاجتماعي الدولية، مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب"، وقطع الطريق أمام الوصول إلى البيانات والمعلومات المتاحة للعامة عن طريق حظر محركات البحث الشهيرة، وإيجاد مواقع وبرامج صينية بديلة تخضع لرقابة الدولة.
وفي ظل جائحة كورونا، أغلقت الصين حدودها الدولية وما زالت منذ أكثر من عامين تفرض قيوداً على سفر المواطنين إلى الخارج ودخول الأجانب إلى البلاد، الأمر الذي يطرح تساؤلات عما إذا كانت الصين تتجه نحو التخلي عن العالم بصورة كلية، وخلق عالم مواز مفصّل على مقاس تطلعات ورغبات الدولة القارية.
نسخة مصغرة عن العالم
ويقول الموظف في شركة سياحية في العاصمة بكين لين جوشوا لـ "العربي الجديد": "لا شيء يمكن أن يغني المرء عن الانخراط في العالم والتواصل مع المجتمعات والثقافات الأخرى. نعيش في عزلة حقيقية بسبب الإجراءات والتدابير الحكومية، وقد تعزز هذا الشعور مع تفشي جائحة كورونا وفرض حظر على السفر من وإلى الصين، وبات الأمر مزعجاً. ولا يعقل ونحن في القرن الواحد والعشرين أن نكون غير قادرين حتى على معرفة ماذا يحدث من حولنا. فجميع المنافذ الإخبارية الدولية محظورة، وما ينشر في الإعلام الصيني عن العالم الخارجي يمر بعمليات فلترة مكثفة، بالإضافة إلى أن معظم الأخبار التي تصلنا عن الدول والمجتمعات الأخرى سلبية، تتحدث عن معدل ارتفاع الجريمة، وعدم شعور المواطنين هناك بالأمان، عدا عن المؤامرات التي تحاك ضد الصين، وهي عوامل من شأنها أن تثير مشاعر الكراهية لدى المواطن الصيني وتجعله يشعر بأنه مستهدف، وبالتالي لا بد من الاصطفاف والالتزام بتوجيهات الحكومة كي لا يكون لقمة سائغة للغرب".
من جهته، يقول مهندس متخصص في برمجة الحاسوب يعمل في مدينة شينزن، وانغ تشو ووي: "أثبتت جائحة كورونا أن الصين قادرة بالفعل على الاستعاضة عن العالم الخارجي، من خلال توفير كل متطلبات الحياة بالنسبة لمواطنيها من دون الحاجة إلى الاعتماد على الآخر". يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "الأمر لا يقتصر فقط على الاحتياجات اليومية لـ 1.4 مليار نسمة مثل الأكل والشرب، بل أيضاً ينسحب على جوانب تقنية مثل توفير مدن وقرى ذكية، بالإضافة إلى وسائل الترفيه وبرامج التواصل الاجتماعي المحلية، مثل موقع ويبو المعادل الصيني لموقع تويتر، ومنصة دوين للفيديوهات القصيرة، والهواتف الذكية التي تنافس نظيرتها الأميركية، والعديد من البدائل المحلية التي تجعل من الصين نسخة مصغرة عن العالم الخارجي".
نموذج كوريا الشمالية
ويوضح الباحث في العلاقات الدولية في معهد "وان تشاي" للأبحاث والدراسات في هونغ كونغ، ليو مينغ، أن "النهج الذي تتبعه الصين، وإن كان يأخذ بعين الاعتبار حماية الدولة والمواطنين من أي تهديد خارجي، من شأنه أن يُدخل البلاد في عزلة تشبه ما يعيشه اليوم سكان كوريا الشمالية، لناحية تقنين وفلترة المعلومات، وتوحيد عناوين الأخبار التي لا تحيد عن السياسة التحريرية التي تحددها الدولة، والاعتقاد السائد بأن العالم كله يتآمر عليهم ويسعى إلى إحباط نهضتهم". يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد" أن "المجتمعات التي تخضع لهذا النوع من العزلة لا يمكن أن تتقدم لأنها لا تملك المعيار والنموذج المحفز، كما لا يمكن لها أن تأخذ بزمام المبادرة لأنها تفتقر إلى الجرأة والشجاعة"، لافتاً إلى أن "العديد من المواطنين الصينيين ضاقوا ذرعاً من فكرة البعبع الغربي الذي يسوّقه الإعلام الرسمي، وتصوير العالم على أنه غول يستهدف نمو البلاد، لكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً. فحتى مجرد التنفيس في الفضاء الإلكتروني غير متاح بسبب الرقابة الصارمة على وسائل التواصل الاجتماعي".
يضيف مينغ أن "ما سبق يتناقض مع حديث قادة الحزب الشيوعي عن الانفتاح ورغبة الصين في بناء مجتمع دولي ذي مصير مشترك، كما يتعارض مع مبادرة الحزام والطريق التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013، والتي تهدف في شقها الاجتماعي إلى تعزيز التبادل الثقافي بين الدول". ويسأل: "كيف تريد الصين مع شعوب الدول الأخرى أن تتكاتف وتتعاون لمجابهة ما تصفه بعالم القطب الواحد الذي تقوده الولايات المتحدة، في حين أنها تمارس هذه القطبية مع شعبها، وتعزله عن بقية شعوب العالم؟".
يشار إلى أن الصين تواجه انتقادات شديدة بسبب إحكام قبضتها على شبكة الإنترنت وتطبيق قوانين وتدابير خاصة، بحجة حماية فضائها الإلكتروني الذي يرتاده أكثر من سبعمائة مليون مستخدم. وتعتبر بكين أن أمنها الإلكتروني قضية استراتيجية لا يجب التهاون أو التساهل معها. وكانت السلطات الصينية قد أصدرت في وقت سابق قانوناً يلزم القائمين على الخدمات الإلكترونية في البلاد، بالكشف عن بيانات المستخدمين الشخصية للحكومة، الأمر الذي أثار سخطاً شعبياً واسعاً باعتباره ينتهك خصوصية المواطنين ويصادر حقوقهم.