بلغت التداعيات الاجتماعية للعزوف عن الزواج في الصين حدّ تقليص عدد الزيجات إلى 6.8 ملايين العام الماضي، وهو رقم غير مقبول يربطه خبراء اجتماعيين بمسؤولية أولياء الأمور "المتساهلين مع أبنائهم، والذي لا يحثونهم على الزواج".
ويرد آباء بتأكيد أنهم باتوا يفقدون السيطرة على زمام الأمور في حياة أبنائهم في ظل التغيّرات التي طرأت على العلاقات الاجتماعية بتأثير الحياة الصناعية التي قادت إلى الاستقلال المادي، وجعلت النساء يستحوذن على نسبة متزايدة من المناصب المهنية ذات الأجور المرتفعة.
أيضاً يُحلل خبراء اجتماعيون بأن عدم تمتع الآباء بسلطة في توجيه الحياة العاطفية لأبنائهم يرتبط بفقدان الروابط الأسرية بسبب التباعد الاجتماعي، وتراجع القيم مقابل المصالح الذاتية.
ترفض لي ليانغ (32 عاماً) تدخل أبويها في قرار زواجها، وتقول لـ"العربي الجديد": "الارتباط مسألة شخصية يجب ألا تخضع إلى أي اعتبارات أخرى، والمرأة الصينية لم تعد أسيرة المنزل والرجل كما كان حالها قبل عقود، وهي تتبوأ اليوم أعلى المناصب الإدارية والقيادية، وتتمتع باستقلال مادي، وتستطيع مواجهة تحديات الحياة بنفسها من دون الاعتماد على أحد. كما تساهم في تغطية تكاليف المعيشة بالنسبة إلى أسرتها، وتعيل احياناً والديها إذا احتاجا إلى رعاية خاصة".
وتتساءل لي عن أسباب عودتها إلى أبيها في أمر الزواج، بعدما تخلى عنها حين كانت في الثالثة من العمر، وسافر للعمل في مدينة أخرى، ولم يكن يعود إلى المنزل ألا مرة أو مرتين سنوياً.
وتوضح بأنها لا تشعر بالامتنان إلا إلى جدتها التي أشرفت على رعايتها حتى مرحلة الدراسة الإعدادية، ثم فارقت الحياة. وهي تنسب الفضل في نجاحها إلى نفسها، وتقول: "عملت مديرة تسويق في شركة خاصة بعدما تخرجت من الجامعة، وأستطيع حالياً أن أعتمد بالكامل على نفسي، ولست في حاجة إلى رجل في حياتي، لذا قررت العزوف عن الزواج، أما أبي وأمي فالتقي بهما مرة واحدة سنوياً خلال عطلة رأس السنة الصينية، وأنا لا أشعر بأي عاطفة تجاههما، لكنني لا أحمل أي ضغينة ضدهما. وربما كان انشغالهما ما جعلني قوية إلى هذا الحدّ كي أواجه الحياة بمفردي.
وتعلّق الباحثة الاجتماعية لان جو يان على تراجع دور الآباء في توجيه الحياة العاطفية لأبنائهم بالقول لـ"العربي الجديد": "حتى وقت قريب كانت إجراءات التوفيق تحصل بين الآباء بدلاً من الأزواج المحتملين أنفسهم، ما طرح تساؤلات لدى الأجيال الجديدة حول الأساس المنطقي وراء هذا الأمر بعدما حلّت العلاقات الحديثة الموجهة ذاتياً بدلاً من الزيجات التقليدية التي يرتبها الأبوان في الصين".
تضيف: "رغم تزايد الحرية التي يتمتع بها العديد من الشباب اليوم، يتطلب فهم وجهات نظرهم المتغيرة في شأن الزواج فهم مواقف الوالدين أيضاً الذين لم يتخل بعضهم بالكامل عن أدوارهم في توجيه الحياة العاطفية لأولادهم. وهذه الفئة من الآباء تنحصر في أسر تتمتع بروابط اجتماعية قوية أساسها وجود الآباء إلى جانب أبنائهم، وعدم هجرتهم إلى مدن أخرى بحثاً عن عمل. وهؤلاء يأخذون في الاعتبار تفضيلات أبنائهم ورغباتهم، ويستمرون في لعب دور مهم في القرارات الحياتية الرئيسية في ظل إشرافهم مباشرة على التربية والإعالة المالية. أما غالبية الآباء الذين هاجروا إلى مدن أخرى وتركوا وراءهم أطفالهم الذين تربوا في كنف أجدادهم، ففقدوا السيطرة تماماً على أبنائهم، بسبب البعد الجغرافي، وعدم التواصل الاجتماعي إلا في مناسبات محددة. أيضاً هناك عامل الاستقلال المادي للأطفال الذين شقوا غمار حياتهم وحدهم، والذين يشعرون بأنهم غير ملزمين على العودة إلى آبائهم في شأن قراراتهم ومستقبلهم لأنهم يعتقدون بأنه جرى التخلي عنهم في الصغر، كما يحتفظ بعضهم بذاكرة سيئة، ويحملون مشاعر سلبية تجاه آبائهم".
وترى لان أن "التقاطع بين سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها البلاد قبل عقود، والتراكم السريع للثروة بين أفراد الطبقة المتوسطة، ساهما في تشكيل رابطة عاطفية واقتصادية عميقة بين الآباء وأبنائهم أدت إلى انفتاح جديد ومواقف أكثر تقدمية تجاه الزواج قائمة على المساواة بين الجنسين، وفهم أكبر لحقوق المرأة".
وعموماً تسعى السلطات بكل الوسائل إلى الحدّ من تفاقم الأزمات الاجتماعية الملحة بسبب العزوف عن الزواج والإنجاب وارتفاع معدلات الشيخوخة، وتراجع أعداد المواليد الجدد، باعتباره أمراً يقلق قيادتها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم. وهي أنهت العام الماضي عقوداً من الضوابط الصارمة لتنظيم الأسرة، وأعلنت أنه يمكن أن ينجب الأزواج ثلاثة أطفال، وطرحت ما عُرف بـ "فترات هدنة" للأزواج الراغبين في الطلاق قبل المصادقة رسمياً على القرار. كما حددت في بعض المناطق الريفية نسبة المهر كي يستطيع الشباب الزواج.