يعود الحديث عن حوادث التعذيب التي تشهدها السجون والمعتقلات بشكل كبير في السودان، كأحد ارتدادات الانقلاب العسكري (25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) في البلاد. وهذا ليس جديداً في تاريخ البلاد. ففي عهد الرئيس المعزول عمر البشير، وعلى امتداد ثلاثين عاماً من حكمه، يذكر التاريخ قصة الطبيب علي فضل، وهو ناشط في اتحاد أطباء السودان، الذي لقي مصرعه تحت التعذيب. وعام 2019، وفي مدينة خشم شرقي السودان، قتل معلم مدرسة ثانوية يدعى أحمد خير بسبب تعرضه للتعذيب بواسطة عناصر جهاز الأمن والمخابرات الوطني خلال الاحتجاجات الشعبية ضد النظام، وهو ما أثار استياء شعبياً.
وبعد نجاح الثورة السودانية في إسقاط نظام البشير، تراجعت حدة التعذيب في ظل الانفتاح السياسي وإنهاء صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات الوطني، بالإضافة إلى الرقابة الشعبية الكبيرة. لكن في نهاية عام 2020، قتل بهاء الدين نوري (46 عاماً) تحت التعذيب داخل أحد مقرات قوات الدعم السريع، ما أثار غضباً تزايدت معه الحملات للمطالبة بالقضاء على التعذيب كلياً من خلال سن قوانين وتشريعات صارمة وإرادة سياسية قوية ورقابة مجتمعية مستمرة.
وفي فبراير/ شباط 2021، صادقت الحكومة السودانية على الانضمام إلى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، في ظل سعيها إلى تعزيز حماية حقوق الإنسان في البلاد، وهو ما قوبل بترحيب دولي ومحلي من المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان، وسط أمل شعبي بإنهاء فصول انتهاك كرامة الإنسان في السجون.
وبعد مرور 8 أشهر على المصادقة، تسلم قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان مقاليد السلطة في البلاد بعد انقلاب عسكري أطاح بموجبه الحكومة المدنية. وقوبل الانقلاب برفض من السودانيين تجلّى باحتجاجات يومية، لتعود صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وخصوصاً الحبس الاحتياطي، وقد منح حصانة قانونية. وتجدد التعذيب في السجون والمعتقلات. ويتحدث عدد من المفرج عنهم عن تعذيب جسدي ونفسي وإساءات لفظية وعنصرية طوال فترة اعتقالهم. حتى المعتقلون لأسباب غير سياسية يشكون التعذيب خلال فترة توقيفهم. أحد هؤلاء هو علي التاج، وقد اعتقل في موكب مناهض للانقلاب ومكث 4 أيام في السجن من دون تحويله إلى المحاكمة. وتعرض لعنف مبرح خلال اعتقاله. ويقول لـ"العربي الجديد": "كانت أسوأ أيام حياتي، فقد منعت من العلاج وتعرضت للضرب بأعقاب البنادق والركل، وكبلت لساعات طويلة ولم يُسمح لي بالاستعانة بمحامٍ". ومُنعت أسرته وأصدقاؤه من زيارته. كما تعرض لإساءات من قبل ضباط كبار.
ولم يسلم الأطفال من التعذيب داخل المعتقلات. ويحكي حسن عقيل (16 عاماً) لـ "العربي الجديد" عن تجربته في يونيو/حزيران الماضي خلال مشاركته في مليونية 30 يونيو/ حزيران، حين ألقي القبض عليه في منطقة بحري، وانهال عليه رجال الشرطة بالضرب في كلّ أنحاء جسده. واعتقل دون مراعاة لسنه وتعرض لضرب مبرح ولم يحصل على المياه إلّا بعد 12 ساعة من توقيه. كما لم يحصل على طعام ولم يسمح لذويه بزيارته.
ويقول عضو مجموعة "محامو الطوارئ" مشعل الزين المحامي، الناشطة في مجال متابعة بلاغات المعتقلين بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول، إن بعض وسائل التعذيب التي يتعرض لها الضحايا تشمل الإخفاء والاحتجاز غير الشرعيين بعيداً عن الرقابة النيابية والقضائية، والمنع من الأكل والشرب، والحرمان من دخول دورات المياه لفترات طويلة، والحرمان من العلاج، وعدم الحصول على الدعم القانوني، والتحرش بالمعتقلات ومضايقتهن. ويشير إلى أنّ السلطات الأمنية وفي كثير من الأحيان لا تستجيب لقرارات النيابة بالإفراج عنهم، بحجج واهية الهدف منها احتجاز الشخص لأطول فترة بهدف تخويف الناس وحرمانهم من ممارسة حقهم الإنساني في التعبير والتنظيم والتجمع.
يضيف الزين لـ "العربي الجديد" أنّ تلك الممارسات تحصل على الرغم من وجود نصوص قانونية واضحة محلية وأخرى مرتبطة باتفاقية دولية صادق عليها السودان، آخرها اتفاقية مناهضة التعذيب، مشيراً إلى أنه يستحيل أن يحصل الضحايا على حقوقهم ومقاضاة المتورطين في تعذيبهم في ظل الوضع الحالي وسياسة الإفلات من العقاب. ويشير إلى أنهم كمحامين ينصحون الضحايا بتقديم بلاغات لضمان حفظ حقوقهم والتدرج في التقاضي وصولاً إلى القضاء الدولي الذي يعتبر جريمة التعذيب والإخفاء القسري من الجرائم ضد الإنسانية. ويشير إلى تقديم الهيئة أكثر من 6 مذكرات إلى رئيس القضاء لكن لا حياة لمن تنادي.
إلى ذلك، يقول المتخصص في علم النفس علي بلدو إن استمرار التعذيب في المجتمعات يؤثر على الناس والمجتمع. ويوضح خلال حديثه لـ "العربي الجديد" أن هذه الممارسات "تغذي الشعور بالألم وقد تؤدي إلى إعاقات وإصابة الضحية باضطراب ما بعد الكرب وشعوره بالدونية والعجز، وعدم الثقة بالآخرين تجنباً وعدم الإيمان بالقيم المجتمعية وصعوبة الاندماج الاجتماعي والعزلة والانطواء والاكتئاب. ويوضح بلدو أن الدراسات الحديثة تشير إلى أن 25 في المائة من ضحايا التعذيب يحاولون الانتحار نتيجة الصدمة النفسية والجسدية، ويحتاجون لمنظومة متكاملة من الرعاية الاجتماعية والنفسية حتى لا يموت الواحد منهم ألف مرة أمام أسرته وأصدقائه ومجتمعه.