لم يثنِ عقد كامل تقريباً من تراجع متواصل لدخل الفرد في روسيا مسؤولين حكوميين عن تقديم تقارير تؤكد تراجع عدد الفقراء في البلاد، زاعمين أنّ السكان أصبحوا يصفون أوضاعهم بأنّها "طبيعية" وأحياناً "جيدة".
وبين استطلاع أجراه صندوق "الرأي العام" أنّ 19 في المائة فقط من الروس كانوا مستائين من وضعهم المادي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بينما اعتبره 23 في المائة منهم "جيداً" و56 في المائة "متوسطاً"، وانخفضت نسبة من يعتبرون أوضاعهم "سيئة" بمقدار الثلث خلال آخر عقد، إذ كانت نسبتهم تبلغ 29 و27 و25 في المائة على الترتيب في أعوام 2012 و2017 ومطلع 2022.
وتعد نتائج الاستطلاع الأخيرة قريبة من استطلاع سابق أجراه "مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام" في نهاية العام الماضي، وأظهر أن 76 في المائة من المستطلعة آراؤهم كانوا يعتبرون أوضاع عائلاتهم متوسطة أو جيدة، في مقابل 23 في المائة فقط اعتبروها سيئة.
ويقلل الناشط اليساري، إيغور ياسين، من دقة مثل هذه الاستطلاعات، معتبراً أن نتائجها تعتمد على المنهجية التي يمكن التلاعب بها لإظهار نتائج مطلوبة سلفاً، معتبراً أن الطبقتين العمالية والوسطى هما أكبر ضحيتين للأزمة الاقتصادية المتفاقمة منذ بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي.
ويقول ياسين في حديث لـ"العربي الجديد": "في أحيان كثيرة يجري التلاعب بمنهجية الاستطلاعات لإظهار أن الأمور في البلاد ليست سيئة، ومن الصعب أن نثق في مثل هذه الأوقات الصعبة في نتائج استطلاعات الرأي، أو تصور أن عدد من يرون أوضاعهم الاقتصادية جيدة أو مقبولة يزداد. لكن قد يرى البعض الأمر كذلك تحت تأثير الدعاية الرسمية التي تقول إن أوروبا تعاني من الصقيع والمجاعة، ولا يتوفر لديها الغاز، بينما نتغلب نحن على الصعوبات".
ويشير إلى أنّ النزاع في أوكرانيا أدى إلى تراجع النفقات الاجتماعية على سلم أولويات الدولة الروسية؛ إذ "جرى تقليص الميزانية الاجتماعية في مقابل رفع الميزانية العسكرية، لتفوق لأول مرة النفقات الاجتماعية، مما يترجم استمرار انخفاض الدخل الحقيقي للأفراد، وتراجع أوضاعهم المعيشية، وهذا لن يؤدي بالطبع إلى استمرار شعور الناس بأن أوضاعهم جيدة".
ووقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في بداية ديسمبر/كانون الأول الجاري، على قانون الميزانية للأعوام من 2023 إلى 2025، والذي اتسم برفع النفقات الدفاعية والأمنية إلى أكثر من 9 تريليونات روبل (150 مليار دولار تقريباً)، لتبلغ 32 في المائة من إجمالي الإنفاق العام.
ويخلص ياسين إلى أن الشرائح الاجتماعية الأكثر تضررا من الحرب في أوكرانيا، وما ترتب عليها من أزمة وعزلة، هي الفئات الأكثر عرضة للمشكلات المعيشية من أبناء الطبقتين العمالية والوسطى، لافتاً إلى اضمحلال الطبقة المتوسطة في روسيا.
من جهته، اعتبر الخبير الاقتصادي، يفغيني غونتماخير، أن تقييم الروس الإيجابي لأوضاعهم المادية يرجع إلى الأوضاع الراهنة الصعبة التي لا يتوقعون فيها مزيداً من الرخاء. ويقول في تصريحات لصحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية: "يقارن الناس أوضاعهم المادية مع ما يجري من حولهم، وعلى خلفية الوضع الصعب في المجال الاجتماعي يقيمون أوضاعهم بشيء من الموضوعية منطلقين من أنه من الصعب في الظروف الراهنة المطالبة بالمزيد. إذا كان الاقتصاد يسجل نمواً لكان عدد أكبر من الناس يقولون إن أوضاعهم المادية سيئة، لكن على خلفية العملية العسكرية، وضغوط العقوبات، يدرك الناس أن عليهم تقبل الأمر الواقع، وهذا موقف منطقي إلى حد كبير".
وتشير بيانات هيئة الإحصاء الروسية "روس ستات" إلى أنّ "الدخل الحقيقي" للمواطنين بعد خصم نسبة التضخم من معدل ارتفاع الأجور، سجل تراجعاً بنسب 1.2 و4.5 و2 في المائة على الترتيب في أعوام 2014 و2016 و2020، وقابلته زيادة طفيفة بنسب 0.7 و1.2 و3 في المائة في أعوام 2018 و2019 و2021.
وعلى الرغم من سعي السلطات الروسية لكسر التوجه نحو إفقار السكان، عن طريق صرف إعانات إضافية لمحدودي الدخل والمتقاعدين والعائلات التي تضم أطفالا، فإنّ دخول الروس واصلت التراجع طوال الأرباع الثلاثة الأولى من العام الحالي بنسب 1.2 و0.2 و3.4 في المائة على التوالي، بالتزامن مع إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، والآفاق الغامضة للاقتصاد الروسي على وقع العقوبات الغربية غير المسبوقة المفروضة على موسكو.