ما زالت حادثة الاعتداء على تسع معلّمات في مقرّ إقامتهنّ في جنوب الجزائر تتصدّر العناوين، وسط مطالبات بسنّ قانون يحمي المعلّمين عموماً في البلاد ويجرّم أيّ اعتداء عليهم. يأتي ذلك بالتزامن مع احتجاجات للجسم التعليمي في كل الولايات الجزائرية، تطالب برفع الأجور إلى جانب جملة مطالب اجتماعية ومهنية أخرى، في حين تمارس النقابات ضغوط على وزارة التربية لحملها على إقرار مطالب عدّة منذ أكثر من شهر.
ومنذ أكثر من أسبوع، تاريخ وقوع الحادثة في برج باجي مختار بأقصى جنوب البلاد، تستمرّ الوقفات في ولايات مختلفة تضامناً مع المعلّمات الضحايا وتنديداً بالاعتداء الوحشي الذي استهدفهنّ في مقرّ إقامتهنّ على يد مجموعة من المجرمين. يُذكر أنّ اعتداءً ثانياً وقع على مقرّ إقامة معلّمات في منطقة بسكرة جنوب شرقي الجزائر، تمّت في خلاله سرقة مقتنيات مختلفة بعد التهديد بالسلاح الأبيض. وهاتان الحادثتان اللتان هزّتا الشارع الجزائري عموماً والقطاع التربوي خصوصاً، ليستا الأوليَين من نوعهما. فقد شهدت مدن ورقلة وبسكرة في الجنوب ووهران في الغرب والبليدة في الوسط، حوادث اعتداء على معلّمين وأساتذة، سواء في داخل المؤسسات التعليمية أو خارجها، الأمر الذي يُعَدّ انتهاكاً لحقوق هؤلاء وتجاوزاً لقيم وعادات المجتمع الجزائري.
وأعادت حادثة برج باجي مختار تسليط الضوء على قضية كانت النقابات قد طرحتها في وقت سابق على الحكومة، بشأن وضع المعلّمات اللواتي يعملنَ في مناطق بعيدة عن مناطق سكنهنّ الأصلية، مع مطالبة بإعادة تحويلهنّ إلى الولايات حيث إقامتهنّ. وفي هذا الإطار، يقول عضو نقابة اتحاد عمال التربية أحمد بوزيان لـ"العربي الجديد" إنّ "الوزارة لم تردّ على هذا المطلب"، موضحاً أنّ "معلّمات كثيرات يعانينَ من هذه المشكلة وقد تسجّلنَ على المنصة الوطنية الخاصة بتوزيع المعلّمين والأساتذة الموظفين على المدارس، لكنّهنّ لم يحصلنَ على التحويل المطلوب مع العلم أنّ الأولوية لهنّ في هذا المجال، خصوصاً أنّ الفضل يعود إليهنّ في ضمان تعليم التلاميذ في المناطق النائية والحدودية في جنوب البلاد". ويطالب بوزيان بـ"توفير الأمن في المدارس ومقار الإقامات الخاصة بالمعلّمات الوافدات من ولايات أخرى".
وقد تكون للصدفة دورها في تزامن حادثة برج باجي مختار ثمّ حادثة بسكرة مع حركة الاحتجاجات التي يقودها التكتل النقابي الذي يضمّ 14 نقابة تعمل في قطاع التعليم وتمثّل المعلّمين والأساتذة في كل المراحل التعليمية في البلاد، مطالباً بتحسين الظروف المهنية والاجتماعية. فقد دفعت حادثتا الاعتداء النقابات إلى إضافة بند جديد إلى قائمة مطالبها، يتعلّق بسنّ قانون يحمي المعلّمين والأساتذة ويحفظ كرامتهم ويجرّم الاعتداءات عليهم.
تجدر الإشارة إلى أنّه في العقود التي سبقت تسعينيات القرن الماضي، كان المجتمع الجزائري من أكثر المجتمعات احتراماً وتقديراً للمعلّمين والأستاذة الذين كانوا يُعَدّون ذوي مكانة اجتماعية رفيعة. لكنّ جملة التحوّلات التي شهدتها الجزائر أحدثت خلخلة عميقة في النسيج المجتمعي وأثّرت على العلاقات بين مختلف الفئات الاجتماعية بما فيها تلك القائمة في المؤسسات التعليمية بين التلاميذ والمعلّمين، أو بين المعلّمين وعموم المجتمع.
تصف الناشطة التربوية صباح بودراس حادثتَي برج باجي مختار وبسكرة وغيرهما بأنّها "جرائم لا تغتفر، وما هي إلا الشجرة التي تغطّي الغابة وصورة مصغّرة لمعاناة المعلّمين في الجزائر". تضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "ما يتعرّض له المعلّم في المدرسة الجزائرية غير مقبول على صعد عدّة، والقضية تستلزم اهتماماً أوسع من قبل الجهات القضائية والأمنية في حين أنّ مسؤوليتها منوطة حصراً بوزارة التربية". وتسأل بودراس: "ماذا فعلت وزارة التربية التي من المفترض أن تحمي المعلّم؟"، لافتة إلى أنّ "تنقّل المعلّمات إلى ولايات بعيدة عن مقار سكنهنّ الأصلية هو بسبب بحثهنّ عن لقمة العيش لا غير". وتطالب بودراس بـ"سنّ قانون خاص بالتعليم يحمي المعلّمين في أثناء تأدية وظيفتهم، ويحميهم في داخل المدارس وخارجها"، موجّهة أصابع الاتهام إلى وزارة التربية التي "تركت المعلّم في فم المدفع". وتتابع أنّ ذلك يأتي في حين أنّ "المعلّمين عندما يطالبون بتحسين قدرتهم الشرائية يُتّهمون بالابتزاز، علماً أنّ أجر الواحد منهم لا يتعدّى 200 يورو (نحو 250 دولاراً أميركياً)، كأنّما هو لاجئ في وطنه".
ومن جهته، يشدّد عضو نقابة الأساتذة والمعلمين صادوق عبد القادر لـ"العربي الجديد" على أنّ "المشكلة التي يتخبّط فيها المعلّمون بسبب التوظيف في خارج ولاياتهم الأصليّة، تتعلّق أساساً بنظام التسجيل في المنصّة الوطنية التي لا تعترف بظروف النساء وأوضاعهنّ، خصوصاً الاجتماعية منها. بالتالي تضطرهنّ ظروف العيش إلى الانتقال على بعد مئات الكيلومترات عن عائلاتهنّ، الأمر الذي يجعلهنّ عرضة لاعتداءات مختلفة". ويقترح عبد القادر في السياق "إصدار مرسوم يجرّم الاعتداء على العاملين في مجال التربية الذين صاروا مستهدفين في حرم مؤسساتهم التعليمية وفي خارجها".
ومع تكرار الاعتداء على المعلّمين والأساتذة، تُطرح مشكلة تبدّل القيم والعلاقات المجتمعية ومكانة هؤلاء مقارنة بالعقود الماضية. وتقول أستاذة علم النفس وهيبة بودار لـ"العربي الجديد" إنّ "سلّم القيم في الجزائر صار متدنياً ومختلفاً عمّا كان عليه في السابق، عندما كان المعلّم يُعَدّ قيمة وقامة ويُحترم من قبل الجميع إذ إنّه يربّي الناشئة. واليوم، باتت حرمة المعلّم في الحضيض بسبب انقلاب تلك القيم التي صارت تضع التعليم ضمن أدنى الاهتمامات وأولويات الأسرة الجزائرية عموماً، بالإضافة إلى عدم إيلائه تقديراً من قبل سلطات الوصاية. فالأجور المتدنية جعلت من المعلّم عالة على المجتمع، إذ إن راتبه الشهري لا يكفيه لسداد بدل إيجار منزل وإعالة عائلة".