تتعلق شريحة واسعة من الجزائريين بحب اكتشاف الغابات والجبال التي ضلوا طريقها لعقود، وكبتوا مشاعرهم تجاهها لأسباب موضوعية تتعلق بعدم استقرار الوضع الأمني خلال سنوات "العشرية الدموية" بين عامي 1992 و2000، والهواجس التي خلّفها في نفوسهم، وأثرّت لاحقاً على أنماط حياتهم.
يقبل شبان على رحلات التخييم والتنزه في الغابات وسفوح الجبال، وينضم إليها أيضاً خلال عطلات نهاية الأسبوع، خصوصاً العائلات، ما يعكس منحى مصالحة بين الجزائريين والغابات، علماً أن بعض الشبان يجدون في توافد أفراد العائلات على الغابات للتنزه والتخييم لليلة أو أكثر، فرصاً جيدة لتقديم خدمات كمجالات عمل.
مغامرات فلّة
أسفل جبل شنوة شرق محافظة تيبازة والذي يضم غابات تجذب العائلات، تتجوّل فلّة، وهي إعلامية معروفة بحبها لمغامرات الجبال وتنشر على صفحتها في موقع فيسبوك صوراً تتطلع عبرها إلى لفت الأنظار إلى هذه المناطق الجميلة والعائلات التي تسكنها، وكذلك إلى اختصار مغامراتها المليئة بالاكتشافات تمهيداً لتوثيق كنوز تتضمنها المحافظات الجزائرية.
وتنقل صور فلّة مشاهد مبهرة وأنواعاً نادرة من النباتات والطيور، أو حتى لحيوانات قد تكون مهددة بالانقراض، وأماكن تاريخية.
وتقول لـ"العربي الجديد": "جعلني شغفي بالمغامرات أفكر في مشاركة تجاربي الجميلة مع زملاء لي أدعوهم أيضاً بإلحاح إلى الانضمام إليّ من أجل كسر روتين الحياة، واكتشاف عالم جديد مملوء بالمتعة والتشويق. وأجد استجابة كبيرة لهذه الدعوات من أصدقاء وصديقات يرغبون في التنزه مع عائلاتهم".
نفض غبار سنوات القطيعة
قبل سنوات لم يكن التجوّل والتخييم في الغابات والجبال أمراً ممكناً للجزائريين بسبب الظروف الأمنية التي شهدتها بلدهم، والتي جعلت الوصول إلى الأماكن الطبيعية أمراً محفوفاً بالخطر.
وبعد سنوات من الكبت تغيّرت الحال، وتصالح الجزائريون مع الغابات والجبال التي اندفعوا إليها لمحاولة استدراك ما فات، ونفض غبار مقاطعتهم هذه المشاعر التي رمتهم في مستنقع القلق والضغط النفسي المرتبط بحصار الروتين اليومي لحياتهم، ولم يكن بالتالي أفضل من قصد الغابات والجبال للتنزه والتخييم.
يخبر الشاب الثلاثيني محمد أمين "العربي الجديد" أنه اعتاد قضاء أوقات مع أصدقائه في غابة قريبة من البحر حتى تحسن الوضع الأمني في البلاد، ما خلق فرصاً للتفريغ عن النفس في الغابات والجبال، وبعث عادات كادت أن تندثر بالنسبة إليهم خلال فترات قاتمة عاشتها الجزائر خلال حقبة التسعينيات من القرن العشرين".
ويقول لـ"العربي الجديد": "ترتبط عودة الجزائريين إلى التخييم وتنظيم الرحلات واللقاءات السياحية في الغابات والجبال خلال السنوات الأخيرة بتكريس استقرار الوضع الأمني، وتغيّر النمط المعيشي والثقافي والاجتماعي للناس، بدليل مشاركة أصحاب مهن عالية المستوى وذوي مناصب رفيعة في هذه المغامرات، ما يعكس أيضاً شغف الجزائريين بالطبيعة التي كانت مقصداً رئيسا للسياحة منذ الاستقلال قبل أن توقفت في زمن العشرية السوداء".
يضيف: "أتخلى مرات عن ممارسة هوايتي المفضلة المتمثلة في ركوب أمواج البحر وصيد السمك، وألتحق بأصدقائي في تحضير خيم تقع في أماكن بعيدة من صخب المدينة وضوضائها، ما يدفع عنا الضغوط اليومية".
من خلال "فيسبوك"
وفي سياق متصل، أنشأ لطفي لحسن وبشير حداج اللذان يعملان كتقنيين في مؤسسة الإذاعة الجزائرية مجموعة على "فيسبوك" تنشط في مجال تنظيم برامج للتخييم والمشي في الجبال والغابات. وهما ينظمان رحلات أسبوعية في مختلف المناطق لاكتشاف ما تختزنه الغابات الجزائرية من تنّوع بيئي وإيكولوجي، وتعريف الوفود المشاركة به.
يقول لطفي لـ"العربي الجديد": "يتجمّع المشاركون بعد نشر إعلانات عن الرحلات في صفحاتنا على فيسبوك ومواقع أخرى. وتحدد الوجهة بعد تسجيل القائمة النهائية، ويسبق انطلاقها جلسات تعارف بين المشاركين لتسهيل التواصل بينهم، والتعريف بالقواعد الأساسية للرحلة والنظام الداخلي، مع تحديد مهمات المنظمين وتوزيعها".
من جهته، يقول بشير حداج لـ"العربي الجديد": "نحاول استقطاب كل شرائح المجتمع من طلاب وأساتذة وأطباء وقضاة ومهندسين وغيرهم، والنساء في رحلات المشي والتخييم. ونستغل هذه الرحلات لتنظيم مبادرات للحفاظ على ثروات الغابات والبيئة".
ووجدت جمعيات السياحية في رحلات الغابات فرصة لتنظيم نشاطات تشمل جولات للتنزه في مسارات داخل غابات، وبينها جمعية "الأزرق" التي تدعو الطلاب وأفراد العائلات للمشاركة في جولات الى جبال الأطلس البليدي ومنطقة الشريعة وحمام ملوان التي تضم مناطق ذات مناظر خلابة.
وتتخلل هذه الجولات، ممارسة نشاطات المشي في الغابات، حيث يقطع بعض الشبان كيلومترات عدة في الجبال العالية للوصول إلى القمم، وتناول مأكولات في جلسات رائعة. وهم يوثّقون الرحلات ونشاطات التخييم في الغابات من خلال نشر صورها ولقطات الفيديو الخاصة بها على مواقع التواصل الاجتماعي.
الاقتداء بالأوروبيين والأميركيين
وفي تحليله للظاهرة التي عادت بقوة في الجزائر، يقول المتخصص في علم الاجتماع، الدكتور رشيد زواد لـ"العربي الجديد": "تعكس الظاهرة تغيّر نمط عيش الجزائريين، فهذه المغامرات كانت تخص فئة معينة من الطبقة المثقفة وذات المراكز المرموقة في المجتمع، أما اليوم فتأثر كثيرون بوسائل التواصل الاجتماعي التي تروي قصصاً ومغامرات تخص مواطنين أوروبيين وأميركيين، ودفعهم ذلك الى الاقتداء بهم".
يتابع: "يبدو أن الكبت الذي عاشته العائلات الجزائرية خلال فترة العشرية السوداء انفجر وتحوّل إلى شغف وحب لاكتشاف المناطق السياحية وإحياء عادات كانت غائبة بهدف التخلص من الضغوط اليومية الناتجة عن تعقيدات الحياة اليومية المعاصرة، والهروب من زخم المدن وضوضائها والبحث عن الهدوء والسكينة في الأماكن الخضراء وقمم الجبال".