التهجير إلى الجنوب... كيف يفهمه سكان قطاع غزة؟

25 أكتوبر 2023
أكثر من 50 في المائة من الوحدات السكنية في غزة تضرّرت من جرّاء القصف (محمد الحجار)
+ الخط -

وسط العدوان المستمرّ، وجّه الاحتلال الإسرائيلي أوامر بإخلاء شمالي قطاع غزة والتوجّه نحو "المناطق الآمنة" جنوباً. لكنّ المفوّض العام لوكالة أونروا فيليب لازاريني شدّد أخيراً على أنّ "لا مكان آمناً في غزة اليوم".

منذ اليوم الأوّل من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اضطر فلسطينيون كثر إلى ترك منازلهم في مختلف أنحاء القطاع المستهدف والمحاصر، سواء في الشمال الذي يُعَدّ الأكثر استهدافاً والذي تتوالى الأوامر الإسرائيلية بإخلائه أو في الجنوب الذي يتعرّض كذلك إلى القصف على الرغم من ادّعاء الاحتلال خلاف ذلك.

وبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة المتوفّرة إلى حين كتابة هذا التقرير، فقد تخطّى عدد النازحين مليوناً و400 ألف غزي، علماً أنّ هؤلاء لجأوا إمّا إلى مراكز إيواء تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وإمّا إلى مستشفيات وإمّا إلى منازل أقارب وأصدقاء في جنوب ووسط قطاع غزة خصوصاً. لكنّ كثيرين من هؤلاء لم يسلموا من القصف الإسرائيلي الذي راح يلاحقهم في كلّ مكان يقصدونه، فصواريخ الاحتلال طاولت مجموعات نازحين وهم على طرقات النزوح، في حين استُهدفت مدارس تابعة لوكالة أونروا ومستشفيات.

ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تاريخ عملية "طوفان الأقصى"، لم تتوقّف حركة النزوح من شمالي القطاع إلى الوسط والجنوب، لا سيّما إلى خان يونس. وفي حين يدفع الاحتلال، عبر أوامر ومناشير، الغزيين إلى جنوب وادي غزة وإلى الحدود الفلسطينية-المصرية، فقد ارتكب في المنطقة التي يحدّدها "آمنة" عشرات المجازر واستهدف كذلك محيط مستشفيات فيها. وقد بيّنت وزارة الصحة في غزة، اليوم الأربعاء، أنّ المجازر الأخيرة التي ارتكبها الاحتلال تركّزت في الجنوب حيث سُجّل سقوط 65 في المائة من ضحايا الأسبوع الجاري.

على طريق النزوح

في الأسبوع الماضي، وثّقت الكاميرات استهداف الاحتلال الإسرائيلي مباشرة غزيين نازحين في شارع صلاح الدين، أحد الطرقات الرئيسية في قطاع غزة. هؤلاء كانوا في سيارات وشاحنات يغادرون شمالي القطاع إلى الجنوب، الأمر الذي أدّى إلى سقوط ضحايا.

همام الوحيدي (45 عاماً) وزوجته كانا من بين هؤلاء النازحين، لكنّهما نجحا في الوصول إلى خان يونس. ولحظة وصولهما إلى منزل صديق لهما، أُصيبا عند مدخله بشظايا صاروخ، في حين كانا يدخلان مقتنيات تمكّنوا من نقلها معهما. والوحيدي كان قد نزح مع مئات من أفراد عائلته وسكان مخيم جباليا الذين استُهدفت منازلهم بالقصف الإسرائيلي، في حين استشهد عدد من أهالي الحيّ حيث كان يعيش. وهو أب لستّة أبناء، ويرعى كذلك طفلَين آخرَين من أبناء شقيقه الذي توفيّ مطلع العام الجاري.

الصورة
نزوح في قطاع غزة وسط العدوان الإسرائيلي 1 (محمد الحجار)
كثر هم الغزيون الذين تركوا منازلهم على عجل ولا وجهة محدّدة لهم (محمد الحجار)

يقول الوحيدي لـ"العربي الجديد" إنّ "الاحتلال الإسرائيلي قصف منزلاً أمامنا، أنا وزوجتي من دون سابق إنذار، فسقطنا أرضاً. أُصبت أنا بشظايا في ظهري وساقي فيما أُصيبت زوجتي في رأسها". يضيف أنّ "بعد الانتهاء من تلقّي العلاج، توجّهت مع زوجتي والأطفال إلى رفح. لكنّنا لم نجد مكاناً لنا، فعدنا إلى خان يونس". وعند إصابته وزوجته، رأى الوحيدي أمام عينَيه شهداء، أطفال وأشلاء شهداء وجرحى. ويؤكد أنّه أُصيب بالذعر، إذ كانت المرّة الأولى التي يشاهد فيها أطفالاً وقد تحوّلوا إلى أشلاء. ويتابع الوحيدي: "لا أعلم أين يمكنني الحصول على حماية مؤقتة"، مشيراً إلى أنّه شاهد على مجزرتَين أخريَين في المنطقة نفسها التي نزح إليها والتي يقيم فيها حالياً.

ويرى الوحيدي أنّ إجبارهم على النزوح هو من أجل حشرهم في جنوب القطاع، فيسهل بالتالي على الاحتلال مراقبتهم وتصفيتهم ببطء، بعد مسح مناطق شمالي القطاع، من بينها مدينة غزة. ويخبر الوحيدي أنّ "ثمّة أقارب لي استشهدوا، وآخرون أُصيبوا بجروح بالغة بعد نزوحهم إلى وسط القطاع وجنوبه"، فيما يلفت إلى أنّ "كثيرين لا يجدون مأوى عند نزوحهم إلى الجنوب المستهدف كذلك، الأمر الذي دفع أعداداً من الغزيين إلى ملازمة منازلهم في الشمال".

الصورة
نزوح في قطاع غزة وسط العدوان الإسرائيلي 3 (محمد الحجار)
نحو 70 في المائة من سكان قطاع غزة تركوا منازلهم ونزحوا (محمد الحجار)

الموت في كلّ مكان

من جهته، يخبر زياد المدهون (32 عاماً) أنّ شقيقَيه مهند (19 عاماً) وناصر (24 عاماً) استشهدا في 20 أكتوبر الجاري، بعد يومَين من نزوحهما من منطقة مشروع بيت لاهيا في شمال قطاع غزة إلى مدينة رفح الجنوبية. يضيف لـ"العربي الجديد" أنّهما "كانا حينها يحضران الطعام برفقة شبّان آخرين في وسط مدينة رفح". وقد توجّه مسرعاً إلى موقع القصف، وهو لا يريد أن يصدّق ما حلّ بشقيقَيه، فيما راح يصرخ "هربنا من الموت لنجد الموت هنا كذلك".

وقبل نزوح المدهون، تعرّض منزله لأضرار بالغة، وقد اضطر مع أفراد عائلته إلى الاختباء على مدى أسبوع في طبقات سفلية. ويقول المدهون إنّ "الاحتلال وبعد تنفيذه جرائمه وإطلاق تهديداته في الشمال، يريدنا أن نتوجّه جنوباً. وفي الجنوب، سوف نكون كذلك أهدافاً له، بحجّة أنّنا وُجدنا في مواقع تتّخذها حركة حماس مقار لها". يضيف أنّ "هذه هي الحجّة التي سوف يقدّمها الاحتلال مبرّراً للمجتمع الدولي المنحاز له، في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ودول من الاتحاد الأوروبي". ويتابع: "هكذا يُقتل الأطفال والنساء والشباب".

ويلفت المدهون إلى أنّ "شقيقَيّ لم يكونا معنيين بالسياسة"، مبيّناً أنّ "مهند كان طالباً في كلية الهندسة وناصر يعمل في مجال التصميم الغرافيكي ويلعب كرة القدم. هما استشهدا إلى جانب أطفال ونساء"، وكلّ ذلك في إطار خطة الاحتلال "اجتياح شمالي قطاع غزة وحشرنا في الجنوب من أجل تسجيل نصر، وتحويل مناطق كثيرة إلى مدن أشباح حتى نخضع له. لكنّني فلسطيني من مدينة المجدل المحتلة في عام 1948، ولو وجّه الاحتلال صاروخاً إلى رأسي لن أخضع له".

ويذكر المدهون أنّ شقيقه الأكبر إياد (38 عاماً) يقيم في قرية المغراقة الواقعة إلى جنوبي وادي غزة وسط القطاع، التي من المفترض أن تكون "آمنة" بحسب دعاية الاحتلال. لكنّ مواقع عدّة فيها تعرّضت للقصف، واستشهد عشرات من سكانها، في حين أنّه أصيب، مساء الاثنين الماضي. وبعد ذلك ترك القرية وتوجّه إلى منزل أحد الأقارب في مخيّم النازحين الذي أُقيم غربي مدينة خان يونس.

الصورة
دمار في قطاع غزة وسط العدوان الإسرائيلي 2 (محمد الحجار)
165 ألف وحدة سكنية، على أقلّ تقدير، تضرّرت في العدوان الإسرائيلي الأخير (محمد الحجار)

"أتنفّس البارود بدلاً من الهواء"

في الإطار نفسه، نزحت عائلة كارم جبر المكوّنة من 20 فرداً من مخيّم المغازي وسط قطاع غزة، بعد استشهاد سبعة غزيين وجرح عشرات آخرين من بين النازحين إلى مدرسة المغازي التابعة لوكالة أونروا. ويخبر جبر (49 عاماً) "العربي الجديد" أنّ أفراد عائلته نزحوا بداية إلى "مستشفى شهداء الأقصى" في مدينة دير البلح وسط قطاع الغزة الذي يصنّفه الاحتلال "آمناً"، قبل أن يتوجّهوا إلى الجنوب. لكنّ القصف لحق بهم إلى مدينة خان يونس، مع استهداف منزل لعائلة بربخ لجأوا إليه. بعد ذلك، انتقلوا إلى منطقة قريبة من "مجمّع ناصر الطبي" في المدينة نفسها، وقد ظنّوا أنّ المكان قد يكون آمناً نظراً إلى قربه من المستشفى. وفي النزوح الأخير، حتى كتابة هذا التقرير، توجّهت العائلة إلى مدينة رفح في أقصى جنوب القطاع عند الحدود مع مصر، تحديداً إلى حيّ تلّ السلطان الذي لم يسلم من القصف الإسرائيلي في الأيام الأخيرة.

ويشير جبر الذي يؤكد "ما زلت حياً"، إلى أنّه مصاب بداء السكري، وقد تفاقمت حاله في خلال النزوح، لا سيّما أنّه أضاع كيس أدويته ولم يحصل على الإنسولين لمدّة خمسة أيام. ويؤكد جبر أنّ "لا منطقة آمنة في قطاع غزة، والاحتلال يكذب. يريد حشرنا في جنوب القطاع ليُهجّرنا أو يعدمنا"، لافتاً إلى أنّه "نتيجة القصف، صرت أتنفّس البارود بدلاً من الهواء".

الصورة
نزوح في قطاع غزة وسط العدوان الإسرائيلي 2 (محمد الحجار)
دفع الاحتلال الاسرائيلي، عبر أوامر ومناشير، الغزيين إلى النزوح جنوب (محمد الحجار)

وتفيد بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، حتى كتابة هذا التقرير، بأنّ أكثر من 50 في المائة من الوحدات السكنية بقطاع غزة تضرّرت من جرّاء القصف منذ بداية العدوان في السابع من أكتوبر الجاري، وهي إمّا هُدمت بالكامل وإمّا أُصيبت بأضرار جزئية متفاوتة. وبيّنت أنّ 165 ألف وحدة سكنية على أقلّ تقدير تضرّرت، من بينها 20 ألف وحدة هُدمت بالكامل أو لم تعد صالحة للسكن.

وبحسب البيانات نفسها، فإنّ نحو 70 في المائة من سكان قطاع غزة تركوا منازلهم ونزحوا، بسبب العدوان الإسرائيلي المستمر، وقد توزّعوا في 220 مركز إيواء بمختلف المناطق. وقد طاولت صواريخ وقذائف الاحتلال مختلف مناطق القطاع، من أقصى شماله عند أبراج الندى المطلّة على معبر بيت حانون (إيرز) إلى النقطة الأخيرة في جنوب القطاع عند معبر رفح.

المساهمون