التغيير المناخي... الناس والبيئة والبنى التحتية في خطر

26 يوليو 2022
أطلقت المملكة المتحدة إنذاراً من الدرجة الحمراء من جراء درجات الحرارة المرتفعة (كريستيان ب
+ الخط -

فرضت موجة الحر التي ضربت أجزاء كبيرة من المملكة المتحدة واليونان وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية خلال الأسبوعين الماضيين تحديات كثيرة لا تتعلق بالصحة العامة فحسب، بل تطاول الكثير من المرافق العامة التي يعتمد عليها الأفراد في حياتهم اليومية، ومن ضمنها البنى التحتية كالطرقات وسكك الحديد.
صحيح أنّ مدناً كثيرة حول العالم تشهد ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة، إلّا أنّ بعضها قد يكون أكثر تأثراً. على سبيل المثال، أطلقت المملكة المتحدة إنذاراً من الدرجة الحمراء بعد وصول درجات الحرارة فيها إلى نحو 40 درجة مئوية، علماً أن درجة الحرارة في دول الخليج العربي تتخطى الخمسين درجة مئوية من دون أن تشهد انعكاسات سلبية. 
وتقول المهندسة الميكانيكية آلاء كيالي إن تأثيرات الحرارة المرتفعة تختلف من منطقة إلى أخرى بحسب طريقة البناء. وتوضح في حديثها لـ "العربي الجديد" أنّه "في العديد من المدن، مثل العاصمة البريطانية لندن والفرنسية باريس وحتى اليونانية أثينا، التي شهدت موجات حرارة غير مسبوقة، يعود جزء كبير من المباني إلى القرن التاسع عشر. وفي تلك الحقبة، لم يكن تشييد المباني يراعي الظروف المناخية المتطرفة، إذ تمتص العديد من المواد التي تستخدم في المباني القديمة وحتى البنى التحتية مثل القطارات وشبكة الطرقات والجسور الطاقة من الشمس وتحتفظ بها، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارتها، الأمر الذي يترك تأثيرات واضحة على الخرسانات التي تتمدد مع ارتفاع الحرارة". 

حقبة مختلفة 
ويعود تاريخ تشييد البنى التحتية الأوروبية والبريطانية وبعض الدول في المنطقة العربية إلى أكثر من 50 عاماً، وتحديداً إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، لم تكن درجات الحرارة مشابهة لما هي عليه اليوم، بحسب الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (Nasa)، وقد ارتفعت درجات الحرارة على مدار الخمسين عاماً الماضية بنحو 0.13 درجة مئوية لكل عقد.
وتشير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ‎(IPCC)‏ إلى أن البشرية قد تواجه مشكلات أخرى تتعلق بالتغيرات المناخية والتي تؤثر على البنى التحتية، منها ارتفاع مستوى سطح البحر خلال السنوات المقبلة. وتتركز معظم النقاشات في الوقت الحالي على حجم التهديد والتدابير الواجب اتخاذها للحد من تأثير تغير المناخ، وخصوصاً أن ذلك سيؤثر على 5.5 في المائة من سكان العالم. 
وحتى في حال النجاح في الحدّ من زيادة درجات الحرارة العالمية إلى الهدف المنصوص عليه في اتفاقية باريس للمناخ (تهدف إلى الحفاظ على انخفاض معدل ارتفاع درجة الحرارة العالمية خلال القرن الحالي إلى ما دون درجتين مئويتين، ومواصلة الجهود للحد من زيادة درجة الحرارة)، سيظل حوالي 500 مليون شخص يواجهون هذه المشكلة، بحسب التقرير. وبالإضافة إلى ارتفاع مستويات سطح البحر، من المتوقع أن يتضاعف الطقس المتطرف مائة مرة، مع زيادة الحرارة بمعدل 1.5 درجة، وفقاً لدراسة نُشرت في الدورية الشهرية الرائدة في مجال العلوم "Nature". وقدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCED) أن تصل الكلفة الاقتصادية للأضرار الناتجة عن ارتفاع مستوى سطح البحر خلال القرن الحادي والعشرين إلى ما بين 1700 و5500 مليار دولار.

هنا، تقول كيالي: "فرضت التغيرات المناخية نفسها على عالم الهندسة، وخصوصاً في الفترة الماضية، الأمر الذي أدى إلى ثورة في هذا المجال. وبدأ المهندسون يأخذون في الحسبان التغيرات المناخية خلال تشييد المباني والطرقات، واستخدام مواد حديثة وعازلة قادرة على الحد من البرودة شتاء وارتفاع درجات الحرارة صيفاً".
ويظهر تقرير أعدته وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA) ونشر في الثالث عشر من يوليو/ تموز الجاري أن معظم البنى التحتية التي شيدت منذ القرن الماضي لم تعد صالحة لمواجهة التغيرات المناخية، سواء في فصل الصيف أو الشتاء. تضيف: "على الرغم من محاولة المهندسين اتباع أساليب جديدة خلال تنفيذ أية مشاريع، إلا أن التغيرات المناخية تبدو أسرع من الاستجابة إليها".
وبحسب التقرير، فإنّ المهندس عادة ما يعمد إلى تقييم المخاطر البيئية من خلال دراسة التغيرات الحاصلة خلال فترة زمنية لا تتعدى الـ 25 عاماً، على اعتبار أن التغير المناخي يحتاج إلى بعض الوقت حتى يتمكن المهندس من قياسه. إلا أن السنوات الماضية شهدت تغيرات سريعة وخلال فترة زمنية قياسية وبدرجات مخيفة، وبات تغير المناخ شبه سنوي الأمر الذي يفسر انهيار الطرقات بسبب العواصف أو ذوبان السكك الحديدية وانحراف مسارها على الرغم من تشييدها باكراً أو حتى إجراء الصيانة بشكل سنوي.

ويتوقع المهندس المدني إيلي طوق أن تشهد الطرقات والشوارع والجسور مزيداً من الضغط بسبب التغيرات المناخية خلال السنوات المقبلة. ويرى أن العالم يسير حالياً على طريق تخطي درجة الحرارة عتبة 1.5 درجة مئوية، نتيجة الإخفاق في السياسات المتعلقة بحماية البيئة المتفق عليها في اتفاقية باريس للمناخ. وفي ظل السياسات المتبعة حالياً، يتوقع أن يتأثر أكثر من 70 في المائة من الناس في جميع أنحاء العالم بموجات الحرارة المرتفعة.
يتابع: "يتوقع أن تشهد الكثير من العواصم الغربية والعربية موجات حر غير مسبوقة تؤثر على البنى التحتية. ولا ينحصر الأمر بالطرقات والجسور والمنازل، بل سيمتد التأثير إلى محطات تشغيل الكهرباء والمياه في العديد من الدول النامية، والتي أصبحت متهالكة بسبب غياب الصيانة والتحديث، ومن ضمنها لبنان".

خلال إطفاء الحرائق في سلوفينيا (لوكا داكسكوبلر/ Getty)
خلال إطفاء الحرائق في سلوفينيا (لوكا داكسكوبلر/ Getty)

في هذا الإطار، يقول الخبير البيئي زياد أبي شاكر لـ "العربي الجديد" إنّ بعض الدول التي تعتمد على الكهرباء لتسيير القطارات أو الترامواي ستواجه تحديات كبيرة، إذ يرجح أن تتأثر الأسلاك الكهربائية بارتفاع درجات الحرارة، وخصوصاً أن معظم هذه الوسائل التي يعود تاريخ تشييدها إلى القرن الماضي، وبالتالي لا تراعي الضغط السكاني الحاصل اليوم أو التغيير المناخي".

ماذا حصل في أوروبا؟
تسبّبت درجات الحرارة المرتفعة في توقف حركة الطيران جزئياً في مطار لندن لوتون، بالإضافة إلى بعض خطوط النقل السريعة، بحسب ما نقلت وسائل الإعلام. ويعود السبب في ذلك إلى ذوبان أجزاء من البنى التحتية وتمدد سكك الحديد. وبحسب موقع "سكاي نيوز" البريطاني، أجريت تعديلات على الرحلات الجوية لعدم تمكن الطائرات من الهبوط لأن أجزاء من المدرجات قد ذابت بالفعل.
وأعلنت "نت وورك رايل" Network Rail التي تدير البنى التحتية للسكك الحديد في المملكة المتحدة أن درجات الحرارة أثرت على القضبان الفولاذية لسكك الحديد. كما أغلق عدد من المدارس، بعدما أصدر مكتب الأرصاد الجوية إنذاراً من الدرجة الحمراء، محذراً من وجود "خطر على الحياة".
من جهتها، أعلنت بلدية باريس أنها ستبقي المنتزهات مفتوحة حتى منتصف الليل، وستخلق غرفاً مبردة للمواطنين وتفحص الأشخاص المعرضين للخطر، بسبب اقتراب درجات الحرارة من 40 مئوية. كما واجهت إسبانيا موجة حرارة خانقة أدت إلى اندلاع حرائق دمرت عشرات آلاف الهكتارات من الأراضي في جميع أنحاء البلاد. وبلغت درجات الحرارة 46 مئوية. 

الحرارة المرتفعة في إيطاليا لا تمنعها من التقاط الصور (بييرو كروسياتي/ فرانس برس)
الحرارة المرتفعة في إيطاليا لا تمنعها من التقاط الصور (بييرو كروسياتي/ فرانس برس)

استراتيجيات
ما من استراتيجية واضحة حول كيفية حماية المنشآت العامة والمباني والطرقات من تأثير تغير المناخ، يقول المهندس الاستشاري والمتخصص بشؤون البيئة مازن عبود. ويوضح: "من المتعارف عليه أن درجات الحرارة المرتفعة تؤدي إلى  تمدد الخرسانات، ما يتسبب بانحناء أجزاء من الشوارع العامة أو الأرصفة وتمدد الجسور، ما يعيق قدرتها التشغيلية. لكن لا تقتصر التأثيرات عند هذا الحد، بل تصل إلى قطاع النقل الجوي والطيران في ظل درجات الحرارة المرتفعة. من هنا، لا بد من نشر التوعية بشأن أهمية الحفاظ على البيئة". يتابع أنه يمكن استخدام بعض الأدوات أو التقنيات التي تساعد في الحفاظ على جودة البناء، إلا أن كلفتها قد تكون مرتفعة بالنسبة للعديد من الدول، إذ تتطلب إعادة تجهيز البنى التحتية مئات الملايين من الدولارات.

مسارات عدة
وترى كيالي أن هناك خيارات عدة يمكن اتباعها في الوقت الحالي لمواجهة التغيرات المناخية، وذلك من خلال تعزيز مرونة البنى التحتية، ويمكن للمهندسين حماية الطرقات والجسور من خلال استخدام مواد قادرة على التكيف مع تغيرات المناخ. وتقول: "يعمد المهندسون في دول الخليج العربي على سبيل المثال، إلى اتباع استراتيجية مكونة من جزأين: الأول هو تقليل الامتصاص الحراري من خلال سحب الكربون من المواد التي تستخدم لتشييد الطرقات، والثاني هو اعتماد استراتيجيات التبريد والتصريف والتهوية".

تتابع: "في ما يتعلق بتشييد المباني، يمكن استخدام ثلاثة أنواع من العوازل المضادة للمياه والحرارة والصوت. أما بالنسبة للطرقات والجسور، فيمكن استخدام مواد حديثة مثل الفايبر الذي يعد ملائماً لدرجات الحرارة والظواهر الطبيعية، بالإضافة إلى الأرصفة العاكسة الباردة تقلل درجات الحرارة والانبعاثات".
على المدى البعيد، ترى كيالي أنّ إمكانية تضرر البنى التحتية يبقى قائماً حتى وإن شيدت استناداً إلى المعايير الحديثة، وخصوصاً أن الجهود الحالية لمكافحة التغير المناخي ما زالت بعيدة نسبياً عن تحقيق أهدافها. من هنا، يمكن للمسؤولين الحكوميين البدء بتكريس ثقافة الأسطح الخضراء التي تساهم بخفض متطلبات الطاقة من خلال امتصاص الحرارة واعتبارها عازل حراري للمبني. وتؤكد أنّه من خلال زيادة الغطاء النباتي، يمكن تقليل تأثيرات درجات الحرارة على البنى التحتية، وبالتالي الحفاظ على برودة المباني والمناطق المحيطة بها. 
كذلك ينصح أبي شاكر بضرورة التحول نحو الاقتصاد الأخضر الذي يساهم في تلطيف المناخ والحد من التأثيرات على البنى التحتية، وخصوصاً في المناطق ذات الطراز المعماري القديم.

المساهمون