لم تهدأ بعد العواصف السياسية والوبائية والاقتصادية التي تعاني منها الكثير من الدول العربية، وإن خفت حدة بعضها على نحو ملموس. ويفترض أن تكون مجالس التخطيط التربوية التابعة لوزارات التربية والتعليم العالي ومجموعات الخبراء عاكفة الآن على دراسة الأوضاع من مختلف جوانبها، لاعتماد سياسات تعالج الثغرات التي برزت خلال السنوات الماضية، والتي تركت بصماتها على التعليم في القطاعين العام والخاص، بعموم مراحله الأساسية والعالية على نحو سواء.
صحيح أن الدول العربية التي تعاني من اضطرابات سياسية وأمنية لا تزال في وضع صعب، لكن ما يبدو أنه هدوء ما، وإن لم يصل بعد إلى الحلول المطلوبة، يتيح المجال للتفكر في ما آلت إليه الأوضاع من اضطراب في هذا القطاع، وكيفية اعتماد مقاربات تعمل على تعويض ما فات من خسائر وأضرار فادحة. هذا جانب، والجانب الموازي المتمثل بتفشي وباء كورونا ومتحوراته يتضح أنه في الأشهر الأخيرة قد فقد زخمه، وباتت أرقام المصابين به محدودة، بالقياس إلى ما شهدته سابقاً من أرقام بالآلاف يومياً، وفيات ومصابين. هذا التراجع أتاح عودة التلامذة والطلاب والمعلمين والأساتذة إلى صفوفهم على نحو شبه طبيعي، بعد فترات الانقطاع الكلي عن التعليم المباشر والاكتفاء بالتعليم عن بُعد. بالطبع لا ينسحب التحسن على البلدان العربية التي تعصف بها أزمات اقتصادية – اجتماعية، تضغط على الدول والموازنات المخصصة للتعليم والبحث العلمي، كما على الإدارات المدرسية والجامعية والأهالي بطبيعة الحال.
وعليه، فمن المؤكد أن الفرصة متاحة في حال صدور قرار بالإفادة من هذا الهدوء العارض في إعادة تقويم الأوضاع، والانطلاق نحو معالجات، وإن لم تكن كبرى وجذرية، إلا أنها تتيح وضع الأمور على سكة التعافي المعقول. ومما لا شك فيه أن الأعوام الثلاثة المنصرمة كانت أعواماً قاسية، لكن الدروس الثمينة الممكن استخلاصها تكشف عن ثغرات في كل ميدان وصعيد. والعديد منها يمكن التحكم به والتخفيف من خسائره، بينما هناك ما لا يمكن التحكم به، ويتعلق بجملة الأوضاع السياسية التي تجتازها العديد من الدول والكيانات التي تعاني من تخلخل في بنيتها السياسية والاجتماعية، ناهيك بجملة ما تمر به من إعاقات اقتصادية تتطلب سنوات من المعالجة، للشروع في إصلاح ما أفسدته السياسات، وما عانته المؤسسات من تفكك وتحلل، وهو كبير بما لا يقاس بما عرفته المنطقة في غضون المائة عام الأخيرة من حياتها، وما طرأ عليها من تبدلات وتغيرات.
على أن توافر الظروف التي تتيح التفكير والتحليل بهدوء لا يعني بأي حال من الأحوال وجود القرار السياسي، وتوافر القدرات على الشروع في سياسات وخطط ملائمة، خصوصاً عندما نتحدث عن دول ومجتمعات تحولت فيها التربية إلى "لزوم ما لا يلزم"، ضمن أوضاع أقل ما يقال فيها إنها شهدت كوارث على صعد متداخلة، ما يجعل الأولويات متجهة نحو ما يحفظ مقومات البقاء والعيش من هياكل سياسية ومأكل ومشرب وصحة وخدمات عامة وما شابه. على أن هذا التوجه الذي سيكون مرجحاً من جانب بعض الدول والحكومات، أقل ما يقال فيه إنه يعمق الغرق في الوحول التي سقطت فيها منظومات التعليم في المنطقة، ولا يمكن لها أن تخرج منها في حال الإصرار على التعاطي مع التربية والتعليم والبحث العلمي كونه من اللزوميات الزائدة، أو الكماليات، التي يمكن إرجاؤها بانتظار أوضاع أكثر مناسبة قد لا تأتي.
(باحث وأكاديمي)