جلست الجدّة مرتدية ثوبها القطني خلف طفلات كن يغنين للبيئة والسلام، في حصة تدريب صباحية. كان صباحاً مشمساً ساخناً، ومشبعاً برطوبة أغسطس/ آب التي يهرب منها سكان مدينة بورتسودان الساحلية إلى المصايف البعيدة والقريبة، مثل سنكات وجبيت وأركويت المرتفعة وذات الطقس المعتدل، لكن حرب العاصمة الخرطوم رفدت المدينة الآمنة بمئات من الأسر النازحة التي بقيت تكتوي بالشمس الحارقة والرطوبة الدبقة، وزادت مركباتها اختناق المدينة بأطنان من الأبخرة والغازات السامة العالقة في الأجواء.
حاولت كلمات الأغنيات والموسيقى هزيمة اختناق الغرفة الواسعة والساخنة، رغم جهاز التكييف ومراوح السقف التي جهدت لجعل الأمر محتملاً.
كل نظام في الكون موزون
قبل دخول من يفسدون
لتصبح بيئتي بلا حول
قتلوا. قطعوا. هلكوا. نزعوا
لا لا. لا تعبث أبداً بالبيئة
لا تفسد أبداً البيئة
سألت الجدة الطفلات عن الأفعال الأربعة (قتلوا. قطعوا. هلكوا. نزعوا)، وإلى ما تشير؟ تداخلت أصواتهن معددة قتل الحيوانات والناس، وقطع الأشجار، إذ شهدت بورتسودان قبل أعوام نزاعاً بين مكونين، تمدّد لاحقاً ليشمل عدداً من الإثنيات. ولولا تدخل العقلاء لحقن الدماء، وإبراز نماذج التعايش السلمي، لما تم قطع الطريق على من افتعلوا الفتنة.
لكن مخيّلات الطفلات لم تسعفهن للحديث عما هو أبعد، رغم أن بعضهن شهدن فظائع هدم بيوت وتشرّد أسر، ومشاهد موت في معارك العاصمة. تولت الجدّة الأمر، فحدثتهن عن قطع الأرحام، ونزع الأطفال، واقتلاع الأشخاص من أسرهم، وقطع العلاقات الإنسانية. وذكرتهن بإهلاك الموارد، وقتل الحيوانات، الأليفة والوحشية، وقطع الطريق على ما ينفع الناس.
صمتت برهة، ثم نظرت عميقاً في عين المدرب، وهو أحد النازحين، لتتحدث عن إهلاك الموارد، وأهمها مورد الزمن كما قالت، ثم طلبت أن يعدن ترديد المقطع الثاني عن الأثر المتبادل، لتؤكد أنهن يقلن ما يجب أن يُدرك.
كل ما أثّر فيها حياتي. بيئتي بيئتي
كل ما تأثّر بها حياتي. بيئتي بيئتي
أثراً آني. أثراً آتي. بيئتي بيئتي
بعد نهاية الجلسة تداول فريق العمل (الشاعر والمدرب والموسيقي والمعلمة) مع الجدة، وهي أستاذة جامعية سابقة، تقاطعات قضايا البيئة الاجتماعية والسلام المجتمعي، ودور المستنيرين والمبدعين في ترسيخ المفاهيم الموجبة، واعترفت بأن ما دعاها إلى الحضور أغنيات سمعتها على لسان حفيدتها.
(متخصص في شؤون البيئة)