سابقاً، كانت النازحات يعتمدن على فصل الربيع من كل عام لقطف بعض أنواع النباتات البرية وخصوصاً الحويش والخبيزة في المناطق الحرجية في الشمال السوري، ويجدن في جمعها مصدر رزق ووجبة طعام مجانية وسط الغلاء والفقر والنزوح. ولحسن الحظ، شكل فصل الصيف الحالي فرصة موازية لكون هذه النباتات تنمو في الأراضي الزراعية المروية بكثرة.
يومياً، تخرج الأربعينية صبحة السليم، وهي نازحة من ريف إدلب الجنوبي ومقيمة في مخيمات مدينة سلقين شمال غرب إدلب، مع أبنائها الثلاثة إلى الأراضي الزراعية القريبة من مخيمها لجمع الحويش والبقلة. تقول إن الفقر والجوع وقلة فرص العمل وغياب المعيل بعد وفاة زوجها من جراء القصف على مدينتها خان شيخون منذ قرابة الست سنوات، كل هذا دفعها للبحث عما يسد رمق أبنائها، فلم تجد أمامها سوى التوجه إلى الأراضي الزراعية للاستفادة مما تجود به الأرض على الفقراء أمثالها.
واستأذنت أصحاب الأراضي الذين لم يمانعوا جني صبحة لتلك الأعشاب. وفي وقت يرى المزارعون أن مثل هذه الأعشاب تضر بالمزروعات ولا تعود بالنفع عليهم، يعتبرها الفقراء أمثال صبحة وجبة طعام غنية.
وتتحدث صبحة عن أنواع عدة من النباتات البرية، كالخبيزة، والشرينيكة، والمخيترية، والهندباء، والبقلة وغيرها التي تنمو بكثرة في مناطق متفرقة من الأراضي المروية. وتشير إلى أنها غنية بالفيتامينات والحديد، وتغنيهم عن الحبوب كما أن طعمها لذيذ.
وعن كيفية طبخها، تقول إنها تجمع كل يوم نوعاً محدداً من الأعشاب. وتطهو البقلة بطريقة تختلف عن غيرها من الأعشاب، وتضع معها البصل والزيت والبندورة والثوم. أما الأنواع الأخرى كالخبيزة والدردار، فتضع معها الزيت والبصل والفليفلة وبعض البرغل.
وعلى الرغم من أن الطفلة رنيم الكردي (9 سنوات) تحب الحويش والبقلة وتجد طعمها لذيذاً مع الثوم والقليل من عصير الحامض، إلا أنها ملت من تناولها بشكل يومي. وتقول: "دائماً ما تخرج أمي لجمع النباتات وتطبخها لنا باستمرار. نشتهي أنواعاً أخرى من الأطعمة لكننا لا نستطيع طلبها من أمي التي سرعان ما تشعر بالحزن بسبب الفقر وضيق الحال".
أما سميرة العيسى (31 عاماً)، فتجد في جمع الأعشاب من الأراضي الزراعية فرصة عمل جيدة. تجمعها ليبيعها ابنها البالغ من العمر 12 عاماً في سوق مدينة معرة مصرين، حيث تقيم مع عائلتها منذ نزوحها الأخير من قريتها التح جنوب إدلب.
وتقول لـ "العربي الجديد": "زوجي عاطل من العمل، وليس لدينا مصدر للرزق سوى جمع على تلك الأعشاب وبيعها. ومن خلالها، أطهو وجبات مجانية في ظل غلاء اللحوم والخضار وغيرها من المواد الغذائية". وتلفت إلى أنه لا يمكنها الاستغناء عن وجبة البقلة، التي تتمتع بشعبية كبيرة في إدلب، ويقبل كثيرون على شرائها بسبب قلة توفرها في الأسواق من جهة، وفوائدها الغذائية الغنية وطعمها اللذيذ وسعرها الذي يناسب جميع الأسر الفقيرة من جهة أخرى.
ولا تعتمد سميرة على ابنها فقط في بيع ما تجمعه من نباتات، بل تسعى لبيع قسم منها لجاراتها وساكني المخيم الذين يطلبونها منها باستمرار. ولا تجد سميرة أن جني الحويش مهنة سهلة بل غالباً ما تواجه خلالها التعب والإرهاق والجوع والتعرض للدغ الحشرات ووخز الأشواك تحت أشعة الشمس اللاهبة، لغيابها الطويل عن المنزل ريثما تتمكن من جمع أكبر قدر ممكن من تلك النباتات.
وعن فوائد البقلة والخبيزة، تقول خبيرة التغذية علا الحاج حسين لـ "العربي الجديد"، إنهما من أكثر الخضار الورقية ذات القيمة الغذائية العالية، ويمكن أن تؤكل نيئة أو مطبوخة، موضحة أنها غنية بمضادات الأكسدة والمعادن والمركبات النباتية المفيدة. وتشير إلى أن تناول البقلة وأنواع الحويش يقلل من خطر الإصابة بالعديد من الأمراض، ويحارب الالتهابات، ويحافظ على صحة الكبد. كما يعد تناولها آمناً بالنسبة لمعظم الناس، وتساهم في معالجة الإمساك، وجفاف الفم، والتخفيف من مشاكل المعدة والسعال الجاف ومشاكل المثانة والتهاب القصبات والشعب الهوائية، بالإضافة إلى مكافحة البكتيريا وتقوية المناعة.
كما توضح أن البقلة توفر نسبة 44 في المائة من الحاجة اليومية لفيتامين "أ" إذ إن كل 100 غرام من هذه العشبة تحتوي على 1320 وحدة من هذا الفيتامين، ويعد مهماً لصحة العين ونضارة الجلد وتجدده.
وسجلت مناطق سيطرة المعارضة السورية، شمال غرب سورية، ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الفقر والجوع والبطالة، وسط ضعف في الاستجابة الإنسانية، الأمر الذي يفاقم معاناة السكان والنازحين في المنطقة. وقال فريق "منسقو استجابة سورية" في تقريره الأخير إن حد الفقر المعترف به، ارتفع إلى قيمة 5018 ليرة تركية (حوالي 185 دولاراً)، وحد الفقر المدقع ارتفع إلى قيمة 3790 ليرة تركية (حوالي 140 دولاراً)، مشيراً إلى أن حد الفقر ارتفع إلى مستويات جديدة بنسبة 1.22 في المائة مما يرفع نسبة العائلات الواقعة تحت حد الفقر إلى 89.24 في المائة. ولفت الفريق إلى أن حد الجوع ازداد إلى مستوى جديد بارتفاع 1.34 في المائة، ما يرفع نسبة العائلات التي وصلت إلى حد الجوع إلى 39.64 في المائة، منوهاً إلى أن معدلات البطالة بين المدنيين تزداد بنسب مرتفعة للغاية، إذ زادت مؤشرات البطالة عن شهر مارس/ آذار الماضي 2.3 في المائة، بعد فقدان أكثر من 11372 عائلة مصادر دخلها نتيجة الزلزال الأخير الذي تعرضت له المنطقة، ووصلت نسبة البطالة العامة إلى 87.3 في المائة.