البراميل الخشبية... حرفة تراثية تقاوم الاندثار في الإسكندرية

15 اغسطس 2023
تحتاج صناعة البرميل الخشبي إلى مهارة كبيرة (العربي الجديد)
+ الخط -

يأبى حرفيو البراميل الخشبية في مدينة الإسكندرية شمالي مصر، التباكي على مهنتهم مع ندرة الاحتياج إليها، ما جعل بعضهم يقرر تغيير ثوبها لخلق سوق جديد لتلك البراميل التي توقف استخدامها في حفظ البضائع، لتظهر ضمن ديكورات المنازل والمطاعم والحدائق.
عرف المصريون صناعة البراميل الخشبية لأول مرة قبل أكثر من 200 عام، على أيدي الصناع الأجانب، من اليونانيين والإيطاليين، أو من يطلق عليهم شعبياً "الخواجات"، والذين كانوا يعيشون في الإسكندرية، ويمتلكون ورشاً مخصصة لتلك الصناعة، تخرج فيها الجيل الأول من الصناع المصريين، والذين تعرفوا على أسرارها، وأتقنوها.
بمرور الزمن نقل الجيل الأول من صناع البراميل الخشبية المصريين أسرار "مهنة الأجانب" إلى أبنائهم ليأسسوا ورشاً خاصة بهم، وتزدهر تجارتهم على مدار أكثر من قرن من الزمان، قبل أن تؤدي تقنيات صناعة البلاستيك والمعادن المتنوعة إلى العزوف عن شراء منتجهم، وبالتالي تراجع أعداد العاملين.
يقول الأسطى أحمد حسن، صاحب ورشة تصنيع البراميل الخشبية في وسط الإسكندرية، لـ"العربي الجديد": "لم نتوقف عن تصنيع البراميل منذ افتتح جدي الأكبر الورشة في منتصف القرن الـ19، قبل ما يزيد عن 150 عاماً. أنا وأشقائي نعد الجيل الرابع الذي يتوارث المهنة. غالبية الحرفيين توارثوا المهنة من آبائهم وأجدادهم، ومنهم أفراد عائلتي، ومنذ رحل والدي عن عالمنا في بداية الثمانينيات، تسلمنا الورشة، وحينها كان العمل على أشده، والطلبات تنهال علينا، فهذا متجر يحتاج إلى البراميل الخشبية لحفظ المثلجات، وذاك مصنع يحتاجها في تقسيم الخامات، وهذه مدبغة تحتاجها في صبغ البضائع صغيرة الحجم، بالإضافة إلى مناقصات كانت تطرحها الحكومة لشراء تلك البراميل لتخزين البارود".

يتابع حسن: "مع مرور السنين، بدأ نجم المهنة يخفت، وتنخفض الطلبات، وأصبح الأمر مقتصراً على عدد محدود من المحال، أو خلال بعض المواسم، وذلك لاقتناء الزبائن براميل من البلاستيك والمعادن المختلفة، وهي أكثر قدرة على التحمل، وأكثر سهولة في النقل والتخزين".

عدد صناع البراميل الخشبية تقلص كثيراً (العربي الجديد)
عدد صناع البراميل الخشبية تقلص كثيراً (العربي الجديد)

يستطرد شقيقه وشريكه في الورشة، محمد حسن، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إن "الوضع كان يزيد تعقيداً بمرور الوقت، فكل يوم تفقد الورشة زبوناً جديداً، ما أفقدنا القدرة على تشغيل عمال، ودفعنا لتسريح العمالة الموجودة، وكنا على وشك إغلاق الورشة، لكن بعد تفكير عميق قررنا تغيير ثوب المهنة للحفاظ عليها".

ويوضح محمد حسن: "اتجهنا إلى مجال الديكور، وعقدنا اتفاقات مع مكاتب هندسية لتصنيع براميل خشبية بمواصفات وأحجام وألوان جديدة غير اعتيادية، لتتغير وظيفة البرميل من الحفظ والتخزين، إلى التزيين والتجميل، وهي تستخدم في الحدائق والمتنزهات، وفي المطاعم والكافيتريات، وعلى الشواطئ، وفي المنازل، بينما ما زلنا نحتفظ بعدد قليل من الزبائن التقليديين الذين يستخدمون البراميل في حفظ الأعلاف والعطارة، والأسماك المملحة".

لا يقبل الشباب على تعلم تلك الحرفة (العربي الجديد)
لا يقبل الشباب على تعلم تلك الحرفة (العربي الجديد)

وحول التغيرات التي شهدتها الورشة عما كانت عليه في وقت الأجداد، يقول محمد حسن: "الشكل العام للورشة لم يتغير من حيث البناء وطلاء الحوائط والفوضوية في وضع العدد والآلات وتخزين الخشب والبراميل، لكن التغير طرأ على 3 عناصر. الأول هو دخول بعض العدد والأدوات الحديثة في العمل لمواكبة التطور، والتقليل من الوقت المستغرق في إنجاز العمل، والثاني هو تخفيض جودة الخامات من أخشاب وحديد بغرض خفض سعر المنتج النهائي لأسباب تسويقية، والثالث هو عدم التقيد بالشكل البيضوي للصناديق، والتي كانت ضرورية في الماضي لتسهيل نقلها قبل أن تتوافر وسائل النقل الحديثة الحالية".

وأشار إلى أن "صناعة البراميل الخشبية تختلف كثيراً عن طبيعة عمل النجار التقليدي، فهي لا تعتمد على أي مواد لاصقة للأخشاب، بل تحتاج إلى فن في أسلوب تقطيع الأخشاب، والأطواق المعدنية التي توضع حول البرميل. هذا الفن توارثناه عن أجدادنا، وما تعلمناه نطبقه لمنع تسرب السوائل من البراميل عبر الاعتماد على دهانها من الداخل بمادة شمعية، وتبطينها بطبقة من القش المخصوص".

وعن الصعوبات التي تواجه المهنة في الوقت الراهن، يقول الشقيقان إن البضائع المستوردة من الصين تنافس منتجات الورشة بشكل كبير، كما أنّ المهنة لا تجد التقدير الكافي من المواطنين أو الجهات الحكومية، على الرغم من أنها تعد من الصناعات الصديقة للبيئة التي تنافس المنتجات البلاستيكية الضارة، والتي تبحث الدولة عن طرق للتخلص منها، كما أن الجيل الجديد من الشباب ليس لديه رغبة في امتهان هذه الحرفة المتوارثة.

المساهمون