يُصنّف مجتمع الدنمارك بين الأكثر سعادة في أوروبا، لكن الوجه الآخر لهذه السعادة يتمثل في عيش الآلاف أمراضاً غير مرئية. في العادة يمكن أن تظهر لأمراض مثل داء المفاصل وآلام الظهر تداعيات على سوق العمل، بينما تبقى الأمراض النفسية مخفية، وإن كانت تكلف المجتمع أرواحاً.
ويؤكد تقييم أجرته هيئة الصحة الدنماركية، العام الماضي، تسجيل 6700 وفاة بسبب الاكتئاب سنوياً، وتكلفة 10 مليارات كرونه (نحو 1,4 مليار يورو) للإنفاق العام على علاج ودعم من يعانون من هذا المرض.
ويظهر بحث أجراه متخصصون في تأثيرات الأمراض النفسية أن غياب المصابين باكتئاب في سوق العمل يزيد بنسبة 14 في المائة عن المصابين بأمراض جسدية، وهو يفوق الغياب بسبب أمراض تهدد الحياة مثل السرطان وأمراض القلب، ويحتل الاكتئاب مرتبة متقدمة مقارنة بأمراض أخرى ضمن أسباب التقاعد.
يقول مادس ترير بلوم (47 سنة): "كوني شخصاً يعاني من اكتئاب، لم تتحطم حالتي المزاجية فقط، بل فكري وانضباطي الذاتي ومهاراتي الاجتماعية".
ووفقاً للمراجعات السنوية للمؤسسات العلاجية والأطباء تسجل 13 ألف حالة مرض بالاكتئاب جديدة بين الإناث سنوياً في مقابل 10200 حالة بين الذكور، ويتفوق الاكتئاب على أمراض مثل القلب والسكري والسكتات الدماغية.
ويؤكد باحثون صحيون أن "الجانب المظلم لانتشار الاكتئاب يتمثل في اختلال توازن حياة المصابين، خاصة إذا وصلوا إلى حد الهوس، إذ تسوء علاقاتهم الاجتماعية، وتؤدي في حالات كثيرة إلى الطلاق". ويورد تقرير "عبء المرض" الصادر عن الهيئة الصحية الدنماركية، أن "المصابين باكتئاب يشعرون بأنهم وحيدون وفي عزلة، وغير قادرين على ممارسة أية أنشطة، أو الحفاظ على وزن مثالي، أو التوقف عن التدخين أو تناول الخمور. الاكتئاب قد لا يؤدي إلى الوفاة، لكنه يعزز مجموعة عوامل تساهم في زيادة الوفيات، وبينها الانتحار، ودخول المصابين في نمط عيش غير صحي يتسبب في أمراض جسدية".
وتنتشر في الدنمارك فروع لجمعيات تعنى بالمواطنين المصابين باكتئاب. ويقول الأمين العام لجمعية الاكتئاب الدنماركية، مورتن رونينبيرغ مولر، إن "الاكتئاب بات بين أكثر الأمراض تكلفة، ونحن غير متفاجئين من تزايد أرقام الوفيات بين المصابين لأننا نعرف منذ فترة طويلة أن الأمراض العقلية تقصر العمر بين 15 إلى 20 سنة استناداً إلى حقيقة أنها تزيد الإصابة بأمراض جسدية، كما أنهم لا يرضون عن نظام العلاج، ونعرف أن واحداً من كل 10 مصابين باكتئاب يأتون لتلقي علاج، في حين يكتفي الباقون بمراجعة طبيب الأسرة".
وتوصي جمعية الأمراض النفسية والاكتئاب بتلقي المصابين العلاج في الوقت المناسب، وتحسين اكتشاف النظام الطبي وسوق العمل الاكتئاب في الوقت المناسب، وتشدد على الحاجة إلى توسيع نطاق العلاج كي لا يقتصر على منح أدوية مضادة للاكتئاب، أو الخضوع لعلاج نفسي، وطرح علاجات مثل التحفيز المغناطيسي للدماغ بعدما أثبتت التجارب نتائجه الجيدة.
وتؤكد وزيرة الصحة، صوفي لوده، تعليقاً على التقرير الجديد المتعلق بالصحة النفسية، أن الوزارة ستطبق قواعد جديدة للتصدي للضعف في معالجة الصحة العقلية والتعامل مع المصابين باكتئاب، وأنها طالبت الحكومة بتخصيص أموال إضافية لتحسين خيارات علاج الاكتئاب، وتحديث النظام النفسي لضمان حصول المريض على علاج سريع.
ويرى خبراء أن "الاكتفاء بالعلاجات التقليدية يؤدي إلى انتكاسات في سوق العمل، حيث يعود الموظفون بعد شعورهم بتحسن، لكنهم يصابون بسرعة بآثار الاكتئاب من خلال مشكلات في التركيز"، كما يربط الباحثون الاكتئاب بالتدخين والإفراط في استهلاك الخمور وصعوبة النوم والسمنة المفرطة وعادات الأكل غير الصحية والخمول.
ويشيرون إلى أنه يمكن تجنب 4 ملايين طلب إجازة بسبب المرض في سوق العمل سنوياً لو أن التدخين والخمور وغيرها من العوامل غير موجودة، وفيما يستخلصون أن التدخين يعتبر سبباً رئيساً في أمراض جسدية عدة، يناقش مشرعون مواصلة رفع أسعار التبغ لفرض معادلة خاسرة على المدخنين، إذ يعد التدخين، حسب متخصصين صحيين، مسؤولاً عن 16 ألف وفاة، ما يشكل 30 في المائة من عدد الوفيات السنوية.
ويؤيد البروفيسور في المعهد الدنماركي للصحة العامة، يان تولستروب، والذي شارك في إعداد تقرير "عبء المرض"، رفع أسعار السجائر لفرض توقف الناس عن التدخين، بهدف تحسين الصحة العامة للمجتمع.