"هذه سياسة نفاق وعنصرية غير مقبولة".. هكذا يصف سيباستيان كريتسانسن، من منظمة "أهلا باللاجئين" في الدنمارك، سياسات حكومة بلده التي ترحب باللاجئين الأوكرانيين، في مقابل إظهارها تصلباً كاملاً مع أولئك الذين من خارج أوروبا، علماً أن الانتقادات التي تواجهها سياسة الدنمارك الخاصة بالتعامل مع اللاجئين أكبر، كونها البلد الأوروبي الوحيد الذي اعتبر سابقاً مناطق العاصمة السورية دمشق وريفها آمنة، تمهيداً لتجريد السوريين القادمين منها من حق اللجوء وترحيلهم إلى وطنهم. أما اليوم، فتفتح الدنمارك ذراعيها للأوكرانيين بكرم غير معهود.
ورغم الانتقادات التي وُجهت إلى السياسيين الدنماركيين في شأن ازدواجية تعاطيهم مع لاجئي أوكرانيا مقارنة بغيرهم من دول أخرى، تتمسك حكومة يسار الوسط، برئاسة ميتا فريدركسن، بمواصلة تطبيق نهجها المتشدد المستمر منذ عامين مع السوريين، فيما تستنفر كل قدراتها وإمكاناتها لإظهار كرم الضيافة لعشرات الأوكرانيين الذين دخلوا أراضيها عبر بولندا.
وكانت المنظمات الإنسانية والحقوقية المعنية بقضايا اللجوء طالبت حكومة كوبنهاغن بمراجعة سياساتها المتشددة في شأن اللاجئين القادمين من خارج أوروبا، لكن وزير الهجرة ماتياس تيسفاي أصرّ على أن المسألة ليست "تمييزاً"، ووصف اللاجئين القادمين من أوكرانيا بأنهم "من دول الجوار"، ما يجسّد الفلسفة التي ترتكز عليها سياسات الدنمارك ودول أخرى في القارة الأوروبية في تعاطيها مع مسألة مساعدة اللاجئين من "دول الجوار".
فعلياً، غيّرت الدنمارك منذ عام 2019 سياستها جذرياً مع اللاجئين السوريين الذين تدفق غالبيتهم بعد التدخل الروسي في الحرب المندلعة في بلدهم عام 2015، فواجهت حكومتها والأحزاب المتحالفة معها في البرلمان سيلاً من الانتقادات بسبب ميولها التي وُصفت بأنها "تمييزية". وتتجدد هذه الانتقادات حالياً انطلاقاً من أن اللاجئين السوريين هربوا من القصف الروسي ذاته، وهو ما يحصل مع الأوكرانيين منذ 24 فبراير/ شباط الماضي، "ما يعني أن التمييز الحالي يستند إلى الأصل العرقي، رغم إصرار كوبنهاغن على نفي كونه عنصرياً"، بحسب ما يكرره المنتقدون.
وفي إطار سياسات الحكومة الدنماركية المتعاطفة مع الأوكرانيين، نشطت حملات التبرع التي تهدف إلى دعم اللاجئين الأوكرانيين، وتشارك فيها منظمات مختلفة، بينها "أنقذوا الطفولة" و"مجلس اللاجئين" وصفحات رسمية لصحف ووسائل إعلام.
"الأوكرانيون متحضرون ويشبهوننا"
يعتبر مؤيدون لسياسة التمييز في التعامل مع اللاجئين أن "الترحيب بالأوكرانيين يستند إلى واقع أنهم لاجئون من أوروبا، أي من دول الجوار"، وهو ما كرره تيسفاي في تصريحات عدة أدلى بها للرد على الانتقادات المتزايدة. وبين الردود التي يسوقها مبررو التساهل مع الأوكرانيين والتشدد مع غيرهم، قولهم إن "الأوكرانيين متحضرون ويشبهوننا"، و"يسهل دمج الأوكرانيين في المجتمع الدنماركي أكثر من اللاجئين من دول خارج أوروبا".
وانعكست التصريحات المرحبة بالأوكرانيين في سوق العمل الدنماركي، إذ أبدى مستثمرون وأصحاب شركات في قطاعات مختلفة، بينها الزراعة والصناعة والخدمات، استعدادهم لتوظيف الأوكرانيين فور وصولهم، ما يشكل نمط استعداد مختلفا عن الشروط التعجيزية لتوظيف لاجئين من خارج أوروبا، والتي تطالب بإجادة اللغة وتعديل الشهادات وإظهار خبرة ومهنية، فالأوكرانيون لم يطالبوا باستيفاء أي من هذه الشروط.
وفي إطار سياسة البلديات في التعاطي مع اللاجئين، أفاد "تجمع البلديات الدنماركية" بإن "القادمين من أوكرانيا مستثنون من قانون إلزامية الإقامة في بلدات محددة"، ما يعني تجاهل القانون الذي يلزم اللاجئين الإقامة في مناطق تحددها البلديات في السنوات الأولى للقدوم إلى الدنمارك.
واللافت أن وزارة الهجرة أكدت أن القادمين من أوكرانيا سيلتحقون بالدراسة والعمل "بحسب رغبتهم"، وهو ما لا يطبق على اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، الذين ينتظرون سنوات قبل أن يسمح لهم بالحصول على الامتيازات المخصصة للأوكرانيين اليوم.
ازدواجية ونفاق
وأثارت مواقف قريبة من العنصرية موجة استياء لدى بعض المواطنين الدنماركيين، علماً أن مجرد الإعلان عن الغزو الروسي لأوكرانيا دفع برلمانيين من اليسار ويمين الوسط، وأيضاً من اليمين المتشدد الذي يعبّر عادة عن مواقف سلبية من قضايا اللاجئين، إلى التصريح بأن "اللاجئين القادمين من أوكرانيا لا يخضعون لقوانين اللجوء"، مبدين رغبتهم في منحهم إقامات بلا المرور بالإجراءات التي يخضع لها اللاجئون السوريون وغيرهم.
والحقيقة أن الدنمارك لا تنفرد بتطبيق سياسة تمييز تجعلها تواجه تهمة التصرف بازدواجية ونفاق، إذ تسير باقي دول الاتحاد الأوروبي على منوالها. وبعدما كانت دول عدة تصدت بحزم لمن يحاول عبور حدود الاتحاد الأوروبي بتشييد أسلاك شائكة وجدران وتشديد الحراسة الأمنية، ما جعلها تواجه اتهامات بارتكاب انتهاكات حقوقية، وبينها اليونان والسويد والمجر ودول أخرى في شرق أوروبا ووسطها، فتحت ذراعيها حالياً لاستقبال مئات آلاف الأوكرانيين، مع تعمّدها إظهار عنصرية فاضحة أحياناً مع طلاب دول غير أوروبية كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي في أوكرانيا.
لكن السياسيين الدنماركيين يرفضون الاتهامات العنصرية التي يوجهها مواطنون من أصول مهاجرة إليهم بنشر رهاب الأجانب، والتمييز على أساس اللون والعرق، ويشددون على أن بلدهم "سبق أن استقبل بوسنيين وكرواتيين خلال حرب يوغسلافيا السابقة في التسعينيات من القرن العشرين". أما الناشطون في منظمة "أهلا باللاجئين" الدنماركية فيسخرون من تبريرات سياسيي بلدهم، ويتهمونهم بممارسة التمييز والعنصرية بناءً على لون البشرة. وتعتبر المنظمة أن حكومة الدنمارك "تمارس نفاقاً واضحاً حين تقول إنها تعامل طالبي اللجوء على قدم المساواة، ففي حين تعتبر اللاجئ السوري أو الأفغاني غير مرحب به تنطلق على الفور لفتح ذراعيها للاجئين الأوكرانيين".
وينقل عضو لجنة مكافحة العنصرية في حزب "اللائحة الموحدة" اليساري جون غروسغورد، في حديثه لـ"العربي الجديد"، شعور مواطنين من أصول مهاجرة ولاجئين من سورية ودول أخرى بمرارة تمييزهم واعتبارهم غير مرحب بهم، رغم أن اللاجئين من سورية تحديداً اضطروا إلى اللجوء للأسباب ذاتها المرتبطة بفرار الأوكرانيين من بلدهم اليوم، والتي تتمثل في الغزو الروسي لبلدهم، ويقول: "يطلق هؤلاء تسمية نفاق وانحدار عنصري على هذه التصرفات". أما المحامي المتخصص في قضايا اللجوء، بنت راسموسن، فيقول لـ"العربي الجديد" إن "سياسة التمييز بين اللاجئين أمر مخجل، ما يحتم أن يتأمل الدنماركيون في قيمهم، إذ أن سحب مئات من إقامات السوريين بينها لـ 4500 من القاطنين في دمشق وريفها خلق ببساطة حالة حنق، وعكس وجهاً عنصرياً قبيحاً للدنمارك وأوروبا معاً".
وبين أكثر من 32 ألف لاجئ قدموا من سورية منذ عام 2015، لا يزال الآلاف يعيشون في ظروف يسودها غموض كامل من المستقبل. ويعاني كُثر من مصاعب جمّة تتعلق بتشديد قوانين تمديد الإقامات السنوية ولمّ الشمل، ونقل آخرين إلى مراكز تسفير، أو انتظار تحديد دائرة الهجرة في كوبنهاغن مصيرهم.
وفي تصريح مقتضب، يقول مسؤول في وزارة الهجرة الدنماركية لـ"العربي الجديد" إن "منح اللجوء للسوريين جرى على أساس أنه حماية مؤقتة، وهو أمر واضح منذ البداية. ونحن لم نغير سياستنا الخاصة بالترحيب بالمقيمين بشكل طبيعي ويملكون إقامات وأعمالا مثل باقي المواطنين".
وكانت الإجراءات المشددة التي شملت حوالى 4700 من السوريين المصنفين بأنهم لاجئون مؤقتون، دفعت عشرات الأسر إلى مغادرة الدنمارك إلى دول أوروبية أخرى، علماً أن منظمات حقوقية محلية ودولية مثل الأمم المتحدة والمحكمة الأوروبية، وجهت انتقادات لاذعة لسياسات كوبنهاغن الخاصة بمحاولة تطبيق سياسة الترحيل إلى دمشق.
ويعتقد كُثر بأن إصرار الدنمارك على التشدد مع السوريين والأفغان والعراقيين يهدف في نهاية المطاف إلى "جعل الإقامة في الدنمارك غير محتملة، بأمل أن يوافق هؤلاء على العودة إلى بلادهم أو حتى دول أخرى"، كما يقول كريستانسن.